العدوان الإسرائيلي على مطار دمشق الدولي: ما التبعات الاقتصادية المرتقبة؟
عندما كان معظم المعابر الحدودية يتساقط تباعاً بيد الفصائل المسلحة لأسباب متباينة بين تدخل إقليمي وتواطؤ دولي، كان مطار دمشق الدولي يحافظ على حركة عمله المعتادة، رغم تهديدات قذائف الهاون التي كان يطلقها المسلحون من أطراف بعض المدن والبلدات القريبة من حرم المطار.
لم يكن مسموحاً آنذاك أن يتوقف المطار عن العمل تحت أي ظرف. لهذا، إن إحدى أهم أولويات الوحدات العسكرية الموجودة في المنطقة تمثلت بتوسيع دائرة الأمان المحيطة بحرم المطار، وصولاً إلى ضمان حرية الملاحة الجوية وأمنها بشكل كامل.
لذلك، إنّ توقف مطار دمشق الدولي عن العمل اليوم نتيجة للأضرار التي خلّفها العدوان الإسرائيلي الأخير، ينذر بمرحلة جديدة من الصراع بين دمشق وإيران من جهة، والغرب عموماً من جهة أخرى، إذ إنَّ “تل أبيب” ما كانت لتقوم بهذا العمل لولا الموافقة الأميركية المسبقة، ليس بحكم التنسيق العملياتي القائم بين واشنطن والكيان الصهيوني فحسب، إنما لوجود قوات أميركية تعمل بشكل غير مشروع على الأرض السورية أيضاً. تالياً، إن “تل أبيب” لن تخاطر بعمل كهذا من دون إعلام واشنطن والتنسيق معها لحماية قواتها، بالنظر إلى خطورة عملية استهداف المطار وما تحمله من تبعات سياسية واقتصادية.
وإذا كانت التبعات السياسية والعسكرية للعدوان لم تتضح أبعادها وملامحها بعد بانتظار ما قد تسفر عنه الاتصالات السياسية لبعض العواصم للحيلولة دون انزلاق الوضع إلى مواجهة إقليمية شاملة، فإنَّ التبعات الاقتصادية، وتحديداً ما يتعلق بالخسائر المباشرة وغير المباشرة المترتبة على العدوان، تبدو أكثر وضوحاً، وهي لا تقلّ أهمية عن التبعات السياسية والعسكرية. ويمكن تصنيف تلك الخسائر ضمن خانتين: الأولى خسائر مرحلية، والأخرى متوسطة أو حتى بعيدة المدى.
خسائر مباشرة
مع إعلان وزارة النقل السورية وقف الرحلات الجوية من مطار دمشق الدولي وإليه على خلفية العدوان الإسرائيلي الذي استهدف المهابط وأجهزة الإنارة الملاحية وصالة الركاب القديمة، فإنَّ الخسائر الاقتصادية المترتبة على ذلك يمكن أن تشمل ما يلي، وفقاً للقراءة الأولية للحدث:
– تكاليف عمليات الإصلاح التي ستضطر هيئة الطيران المدني السورية إلى تنفيذها، بغية إعادة جهوزية المطار فنياً للعمل. هذه التكاليف تختلف تبعاً لماهية الضرر الذي لحق بالمطار وحجمه.
وإلى جانب إصلاح المهابط المتضررة، وهي عملية ليست معقدة، وبإمكان الشركات الوطنية السورية تنفيذها، فإنَّ الأهم في كل ذلك يبقى ضمان جهوزية وعمل أجهزة الملاحة الجوية، التي عانت البلاد خلال السنوات السابقة من صعوبة تأمينها وتوفير قطع تبديل لها، بحكم العقوبات الغربية على قطاع الطيران السورية، الأمر الذي يعني أن قيمة التكاليف والفترة الزمنية اللازمة لإعادة المطار إلى الخدمة ستكون مرتبطة بنتائج عملية حصر الأضرار التي وقعت، والحالة الفنية لأجهزة الملاحة وقدرتها على العمل.
– الخسائر المترتبة على توقف الرحلات الجوية الداخلية والخارجية من المطار وإليه، والتي كانت في زيادة واضحة منذ استئناف شركات الطيران عملها في أعقاب تفشي فيروس كوفيد 19.
هذه الزيادة نتجت من أمرين؛ الأول زيادة الرحلات الجوية للخطوط الجوية العربية السورية وشركة أجنحة الشام الخاصة، وتحديداً إلى بعض الدول العربية. مثلاً، هناك رحلة شبه يومية للخطوط الجوية السورية إلى كلّ من الإمارات العربية المتحدة ومصر.
والأمر الآخر هو عودة العديد من السوريين للسفر عبر مطار دمشق والاستغناء تدريجياً عن مطار بيروت، ولا سيما مع بسط الجيش السوري سيطرته على كامل مناطق العاصمة والريف، وتشديد الإجراءات اللبنانية على المعابر الحدودية، والمتعلقة بدخول السوريين إلى الأراضي اللبنانية.
وتأكيداً على انتعاش العمل في مطار دمشق، فإنَّ البيانات الإحصائية الرسمية تظهر أن العام 2021 شهد تحسناً ملحوظاً، ويكاد يكون مضاعفاً، مقارنة بالعام 2020، سواء في عدد الركاب المسافرين عبر المطارات السورية أو في عدد الطائرات القادمة والمغادرة، التي تقتصر اليوم على مطار دمشق مع نشاط محدود لمطار اللاذقية وعودة حديثة لمطار حلب. مثلاً، وصل عدد الركاب المغادرين والقادمين عبر المطارات السورية في العام 2021 نحو 591 ألف راكب، بزيادة قدرها نحو 22% مقارنة بالعام السابق.
وتشير البيانات بوضوح إلى أنَّ العام 2019 كان قد سجَّل أعلى رقم في عدد الركاب منذ العام 2013، فقد وصل العدد إلى أكثر من 1.3 مليون راكب مقارنة مع نحو 797 ألف راكب في العام 2013، ونحو مليون راكب في العام 2015.
ورغم أن عدد الطائرات قد لا يكون مؤشراً دقيقاً بالنظر إلى أنَّ الأهمية تكمن في عدد الركاب، فإنَّ ارتفاع عدد الطائرات المقلعة والهابطة خلال العام الماضي مؤشر إلى حالة الانتعاش التي بدأ يستعيدها مطار دمشق خصوصاً، والمطارات السورية الأخرى عموماً، إذ بلغ إجمالي عدد الطائرات في العام 2021 نحو 8743 طائرة، بزيادة قدرها 52% مقارنة بعدد الطائرات عام 2020، فيما كان العدد في عام 2019 نحو 11 ألف طائرة.
الخسارة هنا ليست محصورة في الإيرادات التي كان يمكن لشركات الطيران تحصيلها، إنما تشمل قطاعات أخرى كثيرة، كالتجارة والصناعة والسياحة، وخصوصاً أن فصل الصيف يشهد عادة إقبال العديد من السوريين العاملين في دول الخليج وغيرها من دول العالم لقضاء إجازاتهم الصيفية في سوريا بعد تحسن الأوضاع الأمنية، إضافةً إلى رجال الأعمال والتجار المشاركين في المعارض والمؤتمرات الاقتصادية وغيرها من الفعاليات التي تقام في هذه الفترة من كل عام.
– الخسائر المترتبة على الخدمات التي كان المطار يقدمها لعدد من الطائرات غير السورية التي كانت تنقل مسافرين من جنسيات مختلفة، كالطائرات العراقية والإيرانية، وهي، على تواضعها مقارنة بحركة الملاحة في المطارات العربية أو بواقع المطارات السورية قبل الحرب، تصبح مهمة ومؤثرة بالنسبة إلى الوضع الاقتصادي في البلاد حالياً وتأثيرات العقوبات الغربية، والأميركية منها تحديداً، في قطاع النقل الجوي السوري.
– الخسائر المترتبة على توقف الشحن الجوي للبضائع، الذي بدأ بدوره يستعيد عافيته بعد موجة تفشي فيروس كوفيد 19 في العام 2020، مع الإشارة هنا إلى مؤشر مهم جداً، هو أنَّ العام 2019 سجَّل أعلى حجم في كمية البضائع المنقولة عبر المطارات السورية على مدار 18 عاماً، إذ بلغت كمية البضائع الكيلو مترية المنقولة جواً على الطيران السورية نحو 5817 طناً/كم جوياً مقارنة بنحو 4297 طناً/ كم جوياً في العام 2007.
على المدى المتوسط
أكثر ما يؤرق في التبعات الاقتصادية للعدوان الأخير هو أن “إسرائيل” تحاول، وبذريعة منع وصول التكنولوجيا العسكرية الإيرانية إلى حزب الله، إحداث شلل كامل في رئة البلاد الاقتصادية وبوابة الانفتاح السوري على العالم الخارجي، والتي أخذت تتوسع يوماً بعد يوم، إذ إنَّ استهداف المهابط المخصصة للطائرات المدنية ليس له تفسير سوى الرغبة في إعادة الوضع إلى ما كان عليه في العام 2013 وما بعد، عندما كان المطار يُستهدف بقذائف هاون المسلحين، في مسعى لإخراجه عن العمل نهائياً، وتالياً عزل البلاد بشكل كامل. هذا الهدف يتقاطع تماماً مع العدوان الذي جرى منذ أشهر قليلة على محطة الحاويات في ميناء اللاذقية، والمستثمرة من قبل شركة فرنسية، وليس من قبل شركة إيرانية!
ويمكننا هنا تحديد بعض الأهداف الاقتصادية الإسرائيلية على المدى المتوسط أو البعيد، وهي أهداف ستبقى رهناً بما يمكن أن تسفر عنه التحركات السياسية الإقليمية والدولية لمنع تدهور الوضع إلى ما لا تحمد عقباه على دول المنطقة والعالم:
– تحذير شركات الطيران العربية والأجنبية التي بدأت تفكّر وتدرس جدياً إمكانية إعادة تشغيل رحلاتها باتجاه دمشق بعد توقف دام عقداً من الزمن، فضلاً عن الشركات التي عادت لتدرس إمكانية استخدام المجال الجوي السوري في تسيير رحلاتها بين الشرق والغرب لأسباب اقتصادية وزمنية في آن معاً.
وهنا، لا تهدف “تل أبيب” إلى إلحاق خسائر اقتصادية بدمشق فحسب، إنما الحيلولة أيضاً دون استعادة المطار حركته الطبيعية، سعياً منها نحو ترسيخ ما تتبناه من زمن، والقائم على أن مطار دمشق هو مجرد ممر يستخدم لإيصال الأسلحة إلى فصائل “تناصبها العداء”.
– محاولة تقييد حركة القدوم المتجهة نحو سوريا والمتصاعدة، سواء بقصد الزيارة السنوية المعتادة للعاملين والمغتربين أو بقصد السياحة، وخصوصاً الدينية منها، أو بقصد التجارة، وغير ذلك. والغاية من كل ذلك ممارسة مزيد من الضغوط الاقتصادية على دمشق، تحقيقاً لمكاسب سياسية في ملفات كثيرة تتداخل فيها العلاقة مع دمشق وطهران.
– رغم تأثير العقوبات الأميركية المفروضة على قطاع الطيران السوري منذ سنوات ما قبل الحرب وخلالها، فإنَّ البلاد تمكّنت من تجاوز العديد من العراقيل والاستمرار بتشغيل طائراتها المحدودة، بل وتدعيم الأسطول السوري الصغير بطائرة من الطراز الكبير، وهو ما تمَّ في ذروة سنوات الحرب.
لذلك، إنّ التحرّك الإسرائيلي هو محاولة لزيادة الخناق الاقتصادي على شركتي الطيران السوريتين العاملتين حالياً والمؤسسات الأخرى المعنية بقطاع النقل الجوي من جهة، وعلى البلاد عموماً من جهة ثانية.