تتجه الأنظار نحو الانتخابات البرلمانية في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل
في حرب مفصلية في تاريخ الشرق الأوسط، أعدت إيران لها لعقود طويلة، بدت ميليشياتها ووكلاؤها كأنهم سراب. “حزب الله” مدمر، نظام الأسد تلاشى، “حماس” محاصرة في حرب غزة، الحوثيون يضربون صواريخ رمزية. أما تلك الفصائل التي اشتغلت طهران على تسليحها ودعمها منذ الغزو الأميركي للعراق في 2003، فقد وقفت على الحياد في حرب الأيام الـ12.
فوق معسكرات الميليشيات ومقرات قادتها، كانت الصواريخ والطائرات والمسيرات تعبر إلى إيران ومفاصلها ورموزها وبرنامجها النووي. حجم “الإسناد” العراقي للحليف الإيراني، لم يتجاوز البيانات الصحافية والتغريدات والجمل الافتراضية. هل هذا يعني أن العراق يخرج من العباءة الإيرانية؟
“تغيير أقفال بغداد… ضغوط أميركية مفتاح كسر هيمنة إيران”، عنوان قصة غلاف “المجلة” لشهر أغسطس/آب. سبق وأن تناولنا نهاية النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط بعد حرب طهران وتل أبيب وواشنطن في عدد سابق، لكننا نركز في هذا العدد على العراق لأسباب كثيرة، بينها حجم الاستثمار الإيراني والوجود الأميركي ومنعكسات أي تغيير في “البوابة الشرقية” على الإقليم والشرق الأوسط الجديد.
في أعقاب حرب الـ12 يوما، كتب مايكل نايتس، أحد أبرز المحللين المتخصصين في الشأن العراقي في واشنطن، في العاشر من يوليو/تموز، أن “هذه اللحظة تحمل فرصة كبيرة لتوسيع النفوذ الأميركي في العراق، وتقليص النفوذ الإيراني”. لا ريب أن نفوذ طهران في بغداد تراجع في بعض الأوجه، لكن هل هو في طريقه إلى الزوال حقا؟
على عكس التوقعات، لم تتحرك الميليشيات العراقية. لم تطلق الصواريخ، ولم تنفذ عمليات انتقامية، بل اكتفت بالتصريحات النارية. هذا التراجع لم يكن ناتجا عن نقص في القدرة العسكرية، بل عن إعادة تموضع اضطرارية فرضتها تغيرات داخلية وخارجية، على رأسها تصاعد الضغوط الأميركية الذكية.
قوة أميركا على الأرض العراقية صغيرة، لكنها تتبع استراتيجية جديدة قائمة على مزيج فاعل من الأدوات المؤلمة: عقوبات مالية تستهدف شبكات تهريب النفط التي تمول الفصائل، وقيود على التحويلات المصرفية التي تُستخدم لشراء الأسلحة، فضلا عن ضربات دقيقة وموجعة لقادة الصف الأول في الميليشيات. وامتدت الضغوط الأميركية إلى مفاصل الدولة العراقية نفسها لإبعاد شخصيات محسوبة على إيران.
رغم أن إيران لا تزال تملك شبكات نفوذ داخل العراق، فإن قدرتها على تحريك أدواتها العسكرية والسياسية تتراجع بوتيرة واضحة
أمور ما كانت لتتم في ظل قبضة إيران خلال العقدين الأخيرين، ما فسره البعض على أنه تغيير في التوازنات بين واشنطن وطهران. هناك من يقول إن السبب هو أن بغداد تسعى إلى صياغة سياسة خارجية مستقلة والحد من قوة الجماعات المسلحة الموالية لإيران، مع الحفاظ على علاقات تاريخية جغرافية معها، إضافة إلى السعي لحصر السلاح بأيدي الدولة وسحبه تدريجيا من الفصائل وتنامي رفض تحويل العراق إلى ساحة لتصفية حسابات إيران مع خصومها الدوليين والإقليميين.
ورغم أن إيران لا تزال تملك شبكات نفوذ داخل العراق، فإن قدرتها على تحريك أدواتها العسكرية والسياسية تتراجع بوتيرة واضحة. ومع نجاح واشنطن في تقييد حركة الميليشيات، فإن المرحلة المقبلة ستشهد على الأرجح مزيدا من التحركات الأميركية لإضعاف ما تبقى من النفوذ الإيراني. لذلك، طرحت أسئلة كبيرة عن خلفيات الاشتباك الذي حصل بين الشرطة الاتحادية و”كتائب حزب الله” التابعة لـ”الحشد” والمدعومة من طهران، وما إذا كانت “رسائل” الطائرات المسيّرة من “الحشد” على مطار أربيل ومنشآت نفطية في إقليم كردستان، هي تحذير للأكراد من الضغط على بغداد.
وإذا لم تفكر الإدارة الأميركية باستراتيجية مواجهة النفوذ الإيراني في العراق، وإعادة ترتيب أوراقه السياسية، وإيقاف سياسة القبول بتداخل السلاح والسياسة، فسيبقى العراق على ما هو عليه في المنطقة الرمادية في علاقته مع الأميركيين. وقد تكون تصريحات محمد شياع السوداني لوكالة “أسوشييتد برس” أوضح تعبير عن هذا، إذ تحدث بمنطق الفصائل التي تبرر شرعية وجود سلاحها لمواجهة الوجود الأميركي من جهة، وأشار إلى اجتماع في نهاية العام لترتيب العلاقة الأمنية مع واشنطن من جهة ثانية. ومن جهة ثالثة أعرب عن أمله في تمتين العلاقات مع إدارة الرئيس دونالد ترمب بتوسيع الاستثمارات في النفط والغاز والذكاء الاصطناعي.
بين خطط أميركا ونكسات إيران وحسابات الحكومة والفصائل في العراق، تتجه الأنظار والرهانات نحو الانتخابات البرلمانية في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، إذ قد تكون هي ما ينتظره الأميركيون لملء الفراغ بعد انسحابهم في 2011 عبر التدخل في شكل الحكومة المقبلة وقياداتها استنساخا للتدخل في لبنان وسوريا، أو قد تكون الانتخابات محطة لإظهار دور “دولة الظل” التي حاكتها إيران في الأمصار العراقية.
مجلة المجلة اللندنية