العراق وسوريا: من الدولة المركزية إلى الجيوش «الفدرالية»
العراق وسوريا، دولتان جمعهما التاريخ المتحول والجغرافيا الثابتة والعقيدة القومية والعدو المشترك، وفرقتهما السلطة، لا سيما بعد وصول حزب البعث إلى الحكم في كلا البلدين في 1963. وما لم يستطع جمعه الزمن جمعته دولة الخلافة الداعشية، فأزالت الحدود التي فرضها الاستعمار في «دار الإسلام» في لحظة وهن يحاول أبو بكر البغدادي تخطّيها ورسم معالم السلطة والنفوذ في «الدولة» التي أقامها في العراق وبلاد الشام، بل يسعى إلى فتوحات جديدة في عقر دار «الكفار» في باريس وبروكسل، وحيث أمكن في العالم، القريب والبعيد، وبلا تمييز بين مسلمين ومسيحيين وملحدين .
أطراف إقليمية عديدة وظفت الحالة التي أوجدتها «دولة الخلافة» ومثيلاتها لمصالح وغايات متباينة. فالبعض يساندها في السر والعلن والبعض الآخر يحاربها. بلاد الشام، منبت القوميات المعاصرة ـ العربية، السورية، وما بينهما ـ سرعان ما استعادت بيئاتها المحلية انتماءاتها الأولية. ففي زمن الشدائد، يبقى الموروث ضامن الوجدان الجماعي ومحرك عصبيات ما قبل «سايكس ـ بيكو» وبعده.
في العراق وسوريا حرب عالمية مقيّدة بإدارة أطرافها، تخاض في دول مفككة، قرارها الحاسم بات خارج الحدود. والخارج بدوره مَعني بمصالح دوله وبتعقيدات أزمات متداخلة لن تعيد أوضاع «العراق وبلاد الشام» إلى سابق عهدها. الدولة المركزية لم تعد قائمة؛ وفدرالية الجيوش، المحلية والإقليمية والدولية، في مناطق الاشتباك الدائر، تفرض مسار السلم والحرب والتناقضات الكامنة في كلا المسارين.
المشرق العربي اهتزت أسسه، دولا وكيانات. والشعوب منقسمة، وكأن الدولة خلال نحو قرن من الترغيب والترهيب بالكاد «مرت من هنا»، وأي أثر تركته لم يعد له وقع بعد الحروب والعنف المستشري. حالة دول المشرق تختلف عن ليبيا، البعيدة نسبيا عن المركز في ما يخص القضايا الإقليمية الكبرى والنزاع العربي ـ الإسرائيلي، ولا هي مشابهة للحالة اليمنية، ماضيا وحاضرا، لأسباب متعددة.
لم يستطع مناصرو الوحدة والقومية في سائر تلاوينها في زمن صعود الناصرية والبعث أن يلغوا الحدود الفاصلة بين القطرَين السوري والعراقي، ولكل منهما شرعية تاريخية وازنة: دمشق، عاصمة الأمويين، وبغداد عاصمة العباسيين. وحده «أبو بكر البغدادي» ذهب إلى أبعد حدود غير الممكن، محاولا وصل ما انقطع منذ الخلافة الراشدة، واصطدم بغير العرب والمسلمين، فكانت إيران وتركيا وروسيا وعدد من الدول الغربية بالمرصاد. هكذا حلّت الدولة الإسلامية مكان الدولة الوطنية أو القومية، وتصدّى لها الفرس والترك والكرد والروس وإلى جانبهم أحفاد سايكس وبيكو والحلفاء.
حروب العراق وسوريا منذ 2003 بدّلت معالم الجغرافيا السياسية في المنطقة. فبالإضافة إلى التوازن الإستراتيجي المفقود بين العرب وإسرائيل منذ معاهدة السلام المصرية ـ الإسرائيلية في 1979، فإن موازين القوى الإقليمية العربية ومع المحيط غير العربي لم تعد قائمة بعناصرها المعهودة. سوريا والعراق في المشرق ومصر شكلتا حالة توازن في النظام الإقليمي العربي منذ الخمسينيات. وجاءت دول الخليج العربي مكوّنا فاعلا بعد حرب 1973، لا سيما في المجال الاقتصادي، وبحماية المظلة الأمنية الأميركية في زمن الحرب الباردة وبعدها.
أما الحالة غير المألوفة فتتمثل بالتقارب الروسي ـ الأميركي بمواجهة عدو مشترك في حرب شرسة يشنها «داعش» باسم الإرادة الإلهية؛ فبعد تباعد فرضته ظروف انتهاء الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفياتي وصدام محدود في السنوات الأخيرة في جورجيا وأوكرانيا، حصل تقارب براغماتي بين واشنطن وموسكو. وبعد الغزو الأميركي للعراق والسياسة المتهورة التي اعتمدتها إدارة جورج دبليو بوش، ثمة تلاقٍ قسري مشترك بين الطرفين في سوريا، وإلى حدّ ما في العراق، مدة استعماله محدودة.
الإرهاب الداعشي لم يعد مسألة نظرية مطروحة للنقاش العقيم حول مضامين التطرف والاعتدال، بل خطر فعلي يواجه الدول والأفراد والجماعات. ففي حين أن إخراج التنظيمات التكفيرية من المعركة لن يعيد الاستقرار إلى العراق وسوريا والوئام بين الشعوب، إلا أنه يفسح في المجال لأطراف النزاع المحليين ولداعميهم سلوك طريق الممكن. فالتفاوض بين بشر يتنازعون السلطة والنفوذ أسهل من التفاوض بين من يدّعون الوحي الإلهي ولا تربطهم بأهل النزاع أي صلة سوى أنها «أرض جهاد»، وقد تكون ساحته أي بقعة جغرافية على امتداد الكرة الأرضية.
صحيفة السفير اللبنانية