العروبةُ الجديدةُ.. محاولةٌ للنقاش
الحديث عن العروبة والقوميّة العربيّة ودولة المواطَنة العربيّة، لن يصير حديثاً من الماضي، وما يتخبّط فيه الواقع العربيّ الراهن يعطي كلّ المسوِّغات اللّازمة لإعادة طرح مسألة العروبة طرحاً متجدّداً ومتخفِّفاً من هجاء التجربة التي خاضتها أنظمة عديدة في أكثر من بلد عربيّ، ومغادراً أيضاً للنقد السطحيّ الذي ألقى على العروبة أحمال خطايا الذين خطفوا رايتها، ثمّ مارسوا باسمها منوّعات من سياسات القهر والإذلال، فكان أن حصدت البلاد العربيّة التي ابتليت بالشعاريّة العروبيّة والقوميّة، خيبة الانحطاط الاجتماعيّ، وخيبة التطوّر الاقتصاديّ، وهزيمة الطموح الوطنيّ والقوميّ، الذي كان من عناوينه الأبرز: التصدّي للنهب الاستعماريّ، ومواجَهة الاستيطان الصهيونيّ في فلسطين، وبناء دولة العدالة الاجتماعيّة الحرَّة في كلّ داخل وطنيّ، والتوق إلى وحدةٍ عربيّة تنهض بأحوال الأمّة العربيّة في مختلف مناحي حياتها.
واقع الحال العربيّ جاء مُخالِفاً لكلّ تلك التوقّعات العربيّة، ومسيرة التطوّرات المُتعاقِبة جعلت البلاد العربية مفتوحة على مشاريع استهدافٍ جديدة من قِبل لاعبين إقليميّين جُدد؛ أمّا المظلّة الدولية القديمة، التي كان فيئها من خيوط حربٍ باردة بين نظامٍ دولي ثنائيّ القطبيّة، فقد أصيب نسيجها بفجواتٍ واسعة، وتسلَّل من خلالها هجوم مصالح وتحالفات، بين الدولي والإقليمي، أصاب البلاد العربية المنكوبة بأعطاب سياساتها، فبنى ذلك التحالف خطَّةَ مصالح استغلالية متجدّدة، مستفيداً من حالة الضعف العربي العامّ، ومُفسِحاً في المجال أمام لاعبين آخرين ليتقاسم وإياهم غنائم المسرح السياسي العربي المفتوح، وخيرات البلاد العربية المنكوبة في اجتماعها وفي عمرانها، وفي عوامل استقرارها في دواخلها الوطنية، وفي مواقعها على خريطة السياسة الدولية.
التردّي هذا، الذي يقيم في بيت “الأمّة العربية”، يشكّل الحافز الأوّل لاستعادة مقدّرات الدفاع عن الذات في مواجهة الهجوم السياسي والعسكري المتوالي في صيغة حروبٍ أهلية داخلية، ومن خلال سياسات تغذية الخارج لهذه الحروب، بما يلزم من وسائل الديمومة الميدانية والسياسية. المدخل إلى إعادة تنظيم الخطوط الدفاعية العربية هو مدخل استعادة الذات العربية الجامعة، المهدَّدة كذاتٍ في ذاتها، والمُستهدَفة بكياناتها الفردية، كمقدّمة لمنْع تبلور إرادتها الجمعية في “تكوينٍ اتّحادي”، يؤمِّن قدراً واسعاً من الحصانة العامّة القومية، ويكفي لتقديم شطرٍ واسع من الحصانة القطرية، من قِبل “لقاء الإرادات” العربية التي أدركت حجم ما تتعرّض له من تهديدٍ في أمنها وفي اقتصادها، وفي اجتماعها وفي استقرار كياناتها، وفي ديمومة هذا الاستقرار.
في ضرورة نقد الماضي
من جديد سيُعاد طرح كلّ الأسئلة الإشكالية التي ارتبطت باسم العروبة، وباسم التجربة الرسمية والحزبية التي قامت في ظلّ شعاراتها، وستُضاف إلى كلّ الأسئلة القراءةُ النقديةُ للتجربة الماضية وخلاصاتُ تلك القراءة، ولن يغيب في معرض الحديث العروبي، الأساسيُّ والضروريُّ من أسئلةٍ جديدةٍ تُلامِس المسائل الشائكة التي باتت ماثلة إشكاليّتها للعيان، بعد كلّ التطوّرات التي عصفت ببلاد العروبة، بخاصّة بعد اندلاع حركة الشارع العربي، ما كان منها سلميّاً وما صار مسلّحاً، وبخاصّة بعد النتائج التي أفضت إليها تلك الحركة، على صعيد الأداء السلطوي وعلى صعيد البناء الاجتماعي الذي ترك مشتركاته، واستعاد عناصر تكوينه الأوّلية، السابقة على كلّ مسيرة الاندماج المتعثّرة.
وممّا هو إشكالي، تلك المقابلة بين العروبة كرابطة عابرة، وبين ابتكار أصولٍ فرعية تتبنّاها المجموعات الداخلية في هذا البلد العربي أو ذاك، كلّما لاحت أزمة سياسية عميقة، وكلّما اهتزَّ أساس القبول التكويني المُتبادَل بين الفئات، بسبب من حرب الداخل مع الداخل، أو بنتيجة الأعباء التي تلقيها مسؤوليّات حرب الداخل مع الخارج.
لقد نبتت بين اللّبنانيين شجيرات الفينيقية والسريانية والكنعانية عندما احتربوا وتنابذوا بالأوصاف وعندما تبادلوا التخوين والاتّهام بنقصٍ في الوطنية ونقصٍ في العروبة، وخاضَ المصريّون في مسألة فرعونيّتهم أو أفريقيّتهم، بخاصّة بعد اتّفاق كامب ديفيد وما تلاه من تطوّرات انعكست على الوضع المصري، مثلما عانى من نتائجها الوضع العربي عموماً. في البلدَين كان الطرح “الأحفوري” حول الأصل والنسب والهويّة، تعبيراً عن عدم رسوخ الاندماج الوطني، وعن وجود استعدادات كامنة لمراجعة الاندماج وعناصره، ولمراجعة الهويّة الاجتماعية ومتفرّعاتها.
وفي سياق الطرح الإشكالي ذاته، حملت أحداث “الانتفاضات العربية” مقابلة قديمة جديدة بين العروبة والإسلام، وها هي الأحداث، التي لمّا تلامس خواتيمها، تشحن المقابلة المُشار إليها بمزيدٍ من عناصر التوتّر، وبمزيدٍ من المعطيات الميدانية التي تزيد من صعوبات النقاش الهادئ الذي يجب أن يترك “ما لقيصر لقيصر وما لله لله”.
في ظلّ هذه المقابلة، التي فيها الكثير من الافتعال، مورست سياسات إقصاء وقمع “للإسلاميّين” على يد الأنظمة الانقلابية العربية، كذلك رفع “المَقصيّون” الإسلاميّون شعارات تخوين الأنظمة وتكفيرها، وذلك باسم اجتهادٍ في الإسلام ادَّعى أصحابه أنّه الإسلام ذاته. أمّا في اليوميات العربية الراهنة، فقد انتقل التكفير ومقولاته من الشعار إلى القتل، وها هي سوريا مثلاً والعراق معها، يشهدان عمليّات قتل وتهجير تطاول أبناء “الأمّة الواحدة”، بسبب من اختلافهم الديني، وتجعل ما كان وطناً جامعاً، ولو جمعاً نظرياً قسريّاً، احتكاراً لمَن يدّعي أنّه الوصيّ على “رسالة الإسلام”، وأنّه القيِّم على شؤون إنفاذها!!
لقد أقصت القومية، أو القوموية العربية النظامية، كلّ ما عداها من إسلاميّين وليبراليّين وعلمانيّين، أي كلّ الذين لا يقولون قولها ولا ينطلقون من منطلقاتها ذاتها. وعلى منوال القومية، رفضت الإسلامية، أو الإسلاموية، كلّ ما عداها من أصحاب العقائد المختلفة، وناصبت الخصومة حتّى أبناء المنطلقات الإسلامية الذين لا يأخذون بنظريّاتها وبفتاواها وباجتهاداتها، حيث النصّ الديني واضح، وحيث يقتضي إعمال الفكر والاستنباط. لدى الفريقَين، لم يكُن كلّ العرب عرباً، ولم يكُن كلّ المسلمين مسلمين، ومن كان خارج فسطاط كلّ فريق سلِّطت عليه أسلحة القمع العاري وأسلحة الإيديولوجيا القاهرة. وفي الحالتَين، وعلى أيدي الفريقَين، تبدَّد الشعور العروبي الذي سبق قيام الكيانات العربية في ظلّ السلطنة العثمانية، وخفَّ زخم الحسّ المصيري العروبي المُشترَك، الذي رافق مرحلة الاستقلالية العربية وتجسُّدها في دُولٍ وممالك وإمارات، وقد جاءت الهزيمة العربية المجتمعية والوطنية والاقتصادية، لتُعلي من شأن الطرح القطري المُنكفئ على ذاته ولتثخن جسد العروبة الفتيّ بالمزيد من الجراح.
في نقاش العروبة الجديدة
لقد كان ما سبق من الماضي القريب والبعيد، وقد باتت تفاعلات ذلك الماضي مدمّرة في الأيام العربية السوداء الحالية، فلقد استأنف القوميّون السلطويّون تدمير بلادهم دفاعاً عن أنظمتهم الفردية، وخلعوا على أفعالهم صفاتٍ وطنيّة وقوميّة لأنّها تنتمي إلى منظومة الدفاع عن النفس القوميّة، ضدّ مؤامرات الأعداء. وعلى درب التدمير لاقى الإسلاميّون نظراءهم القوميّين، ففتَّتوا المُفتَّت، ورفعوا الصوت الديماغوجي بأنّهم إنّما يفعلون ذلك دفاعاً عن “حياض المسلمين”. لقد سقطت العروبة ضحيّة للأفعال السلطوية للفريقَين، وتكفّلت أفعالهما باستثارة العصبيّات القومية للآخرين الذين نزلوا الديار العربية منذ قرون، مثلما شحنت الأفعال ذاتها نفوس المجموعات الإثنية بعوامل الكراهية والعداء.
حالياً، تداخلت العوامل العديدة لتُقيم التطابق بين العرب والعروبة، وبين المسلمين والإسلام، وبين العروبة والعرب والمسلمين والإسلام، هذا التطابق صعب على التمييز في الظرف الراهن، وعملية الفصل بين معطياته معقّدة، ومشروع التصدّي للتطابق، غير الحقيقي، بين الدّين وأهله وبين العروبة وأبنائها، مهمّة عسيرة، ذلك أنّ مصادر العسر تأتي من التوحّشَين القوموي والإسلاموي، اللّذَين تخطّيا في تدمير الذّات العربية الناشئة، كلّ الحدود.
ولكن، ولأنّ المسار التطوّري المقلوب الذي سلكته كلّ الإيديولوجيات التي أساءت إلى العروبة قد وصل إلى جدار صدّ الفشل المسدود، فإنّه لا بديل من إعادة الاعتبار إلى مفهوم العروبة كإطارٍ عامّ جامع يُظلِّل البلاد العروبية بكلّ قوميّاتها وبكلّ إثنيّاتها، وكبيئةٍ حاضنة تتنفّس فيها كلّ المكوّنات، والتي يشكِّل حاصل تفاعلها واندماجها في إطار المواطنة العروبية، الطريقَ الأصوب والأسهل والأسلم، للتقدّم صوب محطّة قيام الأمّة العربية.
ستظلّ الحرّية مضموناً للعروبة، وسيظلّ التقدّم وجهتها، وسيظلّ التنوّع والتعدّد ضمنها، من ضمانات ترسيخها وتطويرها. هكذا تكون المهمّة التاريخية الواجِبة متمثّلة في نقاش العروبة الجديدة، أي النسخة المُعاصِرة التي تلغي بمفاهيمها ومواثيقها ودَور الفرد المواطن الحرّ فيها، كلّ زمن الفوات العربي، الزمن الذي جعل رباط العروبة مفهوماً مرميّاً على قارعة الأذهان.
نشرة أفق (تصدر عن مؤسسة الفكر العربي)