«العكاز» تحقيق روائي عن عوائق الحياة المصرية

سمير فوزي قصاص مصري ابيَّض شعره ولم يبح صوته النقدي وهو ينثر رؤيته في هامش صغير من هوامش القاهرة الثقافية؛ ألا وهو حي شبرا الخيمة، المكتظ بملايين البشر والمحروم من أبسط متطلبات الحياة الآدمية. في روايته «العكاز» (كتاب نون) اختار فوزي أن يبحث عن أسباب فشل المصريين في الخروج من عنق الزجاجة التاريخي والعجز عن الانتقال إلى مجتمع يحفظ للإنسان كرامته!

تكشف أحداث الرواية تدريجاً أثر السياق الثوري على شخصياتها؛ ذلك السياق الذي يمكن رصد بداياته الفعلية في كانون الثاني (يناير) 2011 ولكن لا يمكن تحديد نهايته، لأن «العكاز» تعاملت معه بوصفه حدثاً سياسياً، بل باعتباره فعلاً ثقافياً كشفت من خلاله ما أصاب العقل المصري من تشوهات معرفية تاريخية تعوقه عن إدارة صراعاته اليومية في شكل متحضر، فضلاً عن الحلم بالعودة إلى التاريخ الإنساني وإسهام الأحفاد حضارياً بما يليق بمنجز الأجداد الحضاري.

اختار فوزي شكل الرواية البوليسية التقليدية فافتتح الأحداث بمقتل «عم عربي»؛ ذلك المعوَّق الذي يسير على عكازين، ولمزيد من إثارة القارئ كان مكان الجريمة ذلك المسجد الصغير/ «الزاوية» الملحق بمرآب السيارات الذي يقوم بحراسته. فمع أذان الفجر يكتشف المؤذن (سلامة السمكري) جثة «عم عربي» وإلى جوارها عكازه وفي دبره عصا، لكن رأسه لا أثر لها.

استفاد فوزي من هذا القالب البوليسي لكنه ينجرف ليتابع السؤال التقليدي بالبحث عن القاتل، وإنما يجعل من التحقيق الجنائي المعتاد تحقيقاً ثقافياً مع العقل المصري حين يجعل السؤال الأكثر أهمية في هذه الرواية هو ما المشترك الثقافي بين «عربي» باعتباره منظومة قيم ثقافية وبين كل شخصية من الشخصيات التي تعاملت معه على اختلاف مستوياتهم التعليمية والاجتماعية بل ومعتقداتهم الدينية.

ومن ثم يصبح قتل «عم عربي» بهذه الطريقة بمثابة قتل للثأر في السياق الثوري من جثة عاجزة لكن انفصل عنها رأسها ليكون رأساً لكل جثة تتحرك في مجتمع الرواية.

وعلى رغم التباينات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية؛ فإن الرأس الذي تبحث فيه – وليس عنه – هذه الرواية هو القواسم الثقافية المشتركة بين المقتول والقتلى المحتملين؛ ومن ثم كان أمراً ذا دلالة أن يجعل فوزي بنية هذه الرواية تستند تقنياً إلى تعدد الرواة المشاركين في الأحداث، ليكون كل فصل في الرواية بمثابة فرصة لاعتراف كل شخصية مشاركة في الأحداث بالقاسم المشترك الثقافي بينها وبين «عم عربي» بينما تحاول أن تبرئ نفسها من تهمة القتل الجنائي له. فالقاسم الثقافي المشترك – مثلاً – بين عم عربي ونبيل ابن صاحب الجراج الذي استولى عليه عربي زوراً وبهتاناً أن الشاب نبيل – ضحية عم عربي – خريج كلية العلوم يبرر لنفسه استغلال المجمع الإسلامي لتوفير وظيفة مدرس به من دون أن يلتزم أعراف أصحاب العمل ومنها الصلاة مع الطلاب في المسجد، وكذلك يفعل عربي حين ينام في «الزاوية» مستغلاً فرشها ومروحتها ورافضاً في الوقت نفسه أن يقوم بأداء الصلاة حين يؤذن سلامة السمكري!

ليس القاسم الثقافي المشترك بينهما هنا عدم الصلاة من دون مبرر معلن، بل تبرير استغلال أماكن العبادة لمصالح شخصية، بغض النظر عن الالتزام بطقوس هذا الدين أو الإيمان بمبادئه العقائدية.

إن الاستغلال شعيرة ثقافية تُمارس في مجتمع الرواية وفق القانون الحاكم للمجتمع المصري؛ ألا وهو قانون «البقاء للأقوى»، وهنا يأتي التواطؤ باعتباره ممارسة اجتماعية تعكس الاستعداد الدائم للاعتراف بغلبة الأقوى وأن ما قد يحدث من تبادل للأدوار بين الجاني والضحية لا يعني تغيير عقيدة «البقاء للأقوى»، وإنما يعني أن خبرة الحياة منحت شخوص الرواية يقيناً بصلاحية التواطؤ على تحقيق المصلحة في حدودها الدنيا.

فأم أحمد الأرملة الجميلة التي تبحث عن عمل تستجيب لعم عربي، فتدخل عشته وتتعرى ليشبع رغبتها فتكتشف أنه يقوم بتصويرها بهاتفه المحمول ليجبرها على استغلالها لتعمل في غسيل سيارات الجراج، فهذه الأرملة الضحية نجدها تتفوق على عربي في قدرته على إذلال الآخر؛ حيث تخفي عنه عكازيه ليزحف وراءها متوسلاً إعادتهما؛ وذلك بعد أن تكون تكيّفت مع وضعية الضحية المذلولة وتماهت مع عربي باعتباره تجسيداً لمنظومة ثقافية فاسدة. إنها المنظومة الثقافية التي علّمت «العم عربي» أن يختار زوجته قبيحة لتنجب بناتاً قبيحات حتى لا يطمع فيهن الآخرون، ومن ثم يمنح نفسه الفرصة كاملة ليطمع في جميلات الآخرين ويستغلهن.

واللافت هنا أننا نكتشف أن الاستغلال شعيرة ثقافية تشمل الذكور والإناث حين يقوم فوزي بتغيير الأدوار، فتأتي الفتاة القبيحة ابنة عربي (بسمة) لتلعب دور الصياد بما لديها من مال لتصطاد أجمل الفتيان لتتزوجه لتكسر دائرة القبح المتوارث؛ إنه (حسام) المشهور بحسام الإسرائيلي لاحمرار بشرته وجمال شكله غير المـألوف في مجتمع الرواية، وفي الوقت نفســه يلعب حسام دور الضحية التـــي تتفوق على الصيّاد حيــث يوظـــف جمال شكله ليحصل علــى المـــال فحسب، من دون أن يعـــدم المــبرر الثقافي النبيل لممارسة الاستغــلال والنصب والاحتيال وهو أنه يــأخذ المال لينفقه على أمه التي تغــسل كليتها مرتين أسبوعياً حيث لم تكــفل لها الدولة علاجاً على نفقتها!

وإذا كانت حكاية حسام وبسمة عربي تكشف عن تجاوز الاستغلال والتواطؤ باعتبارهما شعائر ثقافية تتجاوز النوع الاجتماعي، فإن حكاية الشيخ منصور عتمان؛ وكيل وزارة الأوقاف تكشف عن تجاوز هاتين الشعيرتين الثقافيتين للمستويات الاجتماعية؛ فعربي حين يلجأ إلى الشيخ منصور طالباً منه التواطؤ معه للنصب على الدولة ممثلة في وزارة الأوقاف لتعيين موظفين بعد ضم الزاوية إلى الوزارة من دون استيفاء الشروط، فإنه ليس إلا تجسيداً مصغراً لنموذج العقل المصري في سياق التخلف الحضاري، وما الشيخ عتمان سوى تجسيد آخر للعقل نفسه، قد يخالفه في الدرجة لكنه يوافقه في النوع. فالشيخ نفسه يعترف بأنه حصل على منصبه بتقربه إلى قرينة الرئيس وليس لعلمه أو أقدميته.

وبالمثل تأتي حكاية منير توفيق؛ المسيحي الذي يعمل مديراً في السكة الحديد، لتؤكد أن الاستغلال والتواطؤ شعيرتان ثقافيتان تتجاوزان اختلاف الأديان في مصر، فبدءاً من قبول منير أن يعلمه عربي قيادة السيارات ثم يعلم زوجته وبناته وقبوله دفع الرشوة لاستخراج رخصة قيادة السيارة فإنه يتواطأ لكونه مستفيداً من تلك المنظومة، لكن يبقى في نفسه دائماً أنه يشعر بأن ثمة فعلة فعلها عربي مع زوجته جعلتها تمتنع فجأة عن الذهاب وحدها لتعلم القيادة، وهنا يكون التناسي حلاً فردياً للتعايش مع قانون «البقاء للأقوى»، مع عدم تناسي أن الآخر عدو نجد ألف مبرر ثقافي لنثأر منه حين نتمكن منه ونبدّل أدوارنا!

«العكاز» رواية قامت بعمل تحقيق ثقافي مع المتهم الأول في صناعة عربي وليس موت عربي، إنه العقل الذي يسكن رأس كل عربي فينا!

صحيفة الحياة اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى