العلاقات الايرانية ـ التركية.. التنافس في ظل التعاون (ثائر عباس)
ثائر عباس
فهاتان الدولتان «الكبريان» بالمفهوم الإقليمي تجتمعان على المصالح المشتركة، وتختلفان في كل ما عدا ذلك. ولهذا إختارا معا «التنافس في ظل التعاون» من منطلق واقعهما كبوابتين للشرق والغرب. يقول تورول اسماعيل الأستاذ في جامعة اتحاد البورصات التركية أن العلاقات بين ايران وتركيا لا ترتبط فقط بحقبة ما، فهناك الإرث التقافي والتاريخي والموقع الجيو- بوليتكي وموقع الجيرة والمعضلات الاثنية سواء في تركيا او ايران او تلك المشتركة بين البلدين مثل القضية الكردية، كما ان الموزاييك الذي يتكون منه البلدان يؤثر على تلك العلاقات. وبما ان الدولتين تتتمتعان بنفس الاهمية الجيوبوليتيكية مع اختلاف الانظمة التي تحكم تلك البلاد فمن الطبيعي ان يكون هناك تناحر، وبما ان تركيا مدخل الغرب وايران مدخل الشرق فان البلدين يحتاجان الي بعضهما ، ولهذا مهما كانا في تنافس فيما بينهما فهما محكومان بالتعاون. ويمكن ان نسمى هذا الوضع بانه تعاون داخل التنافس.
تعود آخر مواجهة مباشرة بين البلدين الى العام 1514، عندما إستطاع السلطان العثماني سليم الأول حسم الموقعة الاستراتيجية مع الدولة الصفوية. في معركة «جال ديران» الشهيرة التي منحته السيطرة على بلاد الأناضول وفتحت أمام العثمانيين الأبواب إلى المنطقة العربية. وكانت هذه المعركة، هي المعركة الفاصلة، فانتهت من بعدها الصراعات الدموية الكبرى بين الدولتين، فيما وضعت معاهدة زهاب حدا نهائيا للقتال المباشر بينهما. علما أن إعتناق إيران المذهب الشيعي على يد الشاه عباس جرى «نكاية» بالعثمانيين لإعطاء الصراع بين الدولتين بعدا عقائديا.
في التاريخ الحديث، مر البلدان بظروف مشابهة، حتمت التعاون الدائم، فبعد انهيار الدولة العثمانية ووصول العلمانيين إلى السلطة في تركيا بقيادة أتاتورك، تحولت العلاقة بين الطرفين إلى الدفء الشديد الذي انتهى تحالفا بين الطرفين المتمثلين بأتاتورك وخلفائه والشاه الإيراني رضا شاه في أواخر العشرينات وأوائل الثلاثينات. وفي 22 أبريل (نيسان) 1926، وقع البلدان في طهران «معاهدة صداقة» تنص مبادئها على الصداقة والحياد وعدم الاعتداء على بعضهما البعض. ونصت المعاهدة على إمكانية القيام بعمليات عسكرية مشتركة ضد «المجموعات في أراضي البلدين التي تسعى لتعكير صفو الأمن أو تحاول تغيير نظام الحكم في أي من البلدين». في إشارة إلى الأقلية الكردية في البلدين. وفي 23 يناير (كانون الثاني) 1932 وقع البلدان في طهران معاهدة ترسيم حدود نهائية. وفي 16 يونيو (حزيران) 1934 زار الشاه تركيا لمدة أسبوعين مصطحبا وفدا عسكريا رفيع المستوى قام بزيارة العديد من المناطق التركية، إذ وجد الشاه في «النموذج التركي» مثالا يحتذى.
وقد تقارب البلدان في مواجهة «الخطر السوفياتي» ووقفا سدا أمام «التمدد الشيوعي» في المنطقة ووثقا تحالفهما مع الولايات المتحدة وتنامت قوتهما العسكرية إلى حد كبير ليصبح كل منهما «شرطيا» في منطقته يهدد البلدان المجاورة، اعترفا معا بإسرائيل ووثقا علاقتهما بها. وفي عام 1955 انخرطا معا في تأسيس منظمة الحلف المركزي أو «حلف بغداد». وبعد فشل حلف بغداد، تأسس في عام 1964 مجلس التعاون الإقليمي للتنمية بهدف إقامة مشاريع اقتصادية مشتركة بين تركيا وإيران وباكستان.
أواخر السبعينات تعرض البلدان لـ«ثورة» من جهة و«انقلاب» من جهة أخرى، فقد انتصرت الثورة الإسلامية في طهران عام 1979 وتصادم النظام الإيراني الجديد مع التحالف الدولي الذي تقوده واشنطن. وفي عام 1980 جاء الانقلاب العسكري في تركيا بقيادة كنعان إيفرين لتعود العلاقات إلى مرحلة الفتور، لكن العلاقات عادت لتشهد نوعا من الانتعاش بسبب الحرب العراقية – الإيرانية واضطرار إيران إلى استعمال تركيا كرئة تتنفس من خلالها اقتصاديا، فعمدت إلى تمرير صادراتها ووارداتها عبر حدودها مع تركيا، والتي تمتد من شمال غربي إيران وجنوب شرقي تركيا بطول 499 كيلومترا.
ويقول محمد شاهين، الإستاذ في العلاقات الدولية في جامعة «غازي» التركية، والخبير في الشؤون الايرانية في معهد الفكر الاستراتيجي لـ»الشرق الأوسط» أن العلاقات بين البلدين منذ قيام الجمهورية الاسلامية في ايران 1979 الى يومنا هذا تستمر على ادنى مستوى. ويرد ذلك إلى سببين، أولهما الصراع السياسي التاريخي بين الدولتين وثانيهما الإزعاج الذي سببه نجاح الثورة الاسلامية في ايران لدول المنطقة وعلى راسها تركيا، مشيرا إلى أن تلك الدول ومن بينها تركيا أقامت حلفا ضد ايران. ويربط شاهين بين قيام الجمهورية الاسلامية في إيران، وإنقلاب العام 1980 العسكري في تركيا، معربا عن إعتقاده بان الثورة الايرانية كانت سببا مباشرا لقيام الانقلابين بخطوتهم، لان التحالف ضد ايران في المنطقة كان مدعوما من الغرب، كما ان الانقلاب العسكري ايضا كان مدعوما من الغرب. ويرى أن هذه «النظرية تثبت صحتها يوما بعد يوم خاصة بعد الازمة السورية وتغيير الغرب نظرته لايران».
ولكن بعد سقوط الاتحاد السوفياتي السابق وظهور الدول الآسيوية المستقلة عنه في منطقة آسيا الوسطى وبحر قزوين، ظهر صراع إقليمي جديد بين إيران وتركيا على مناطق النفوذ هناك. فهذه المنطقة الممتدة من كازاخستان شرقا وأذربيجان غربا تشكل امتدادا جغرافيا وثقافيا للبلدين، وفيها ثروات نفطية وغازية كبيرة، فسارعت تركيا إلى توقيع اتفاقات اقتصادية وثقافية عدة، توجت باعتماد الصيغة التركية للأبجدية اللاتينية كأبجدية رسمية لدول آسيا الوسطى بدلا من الأبجدية الروسية السلافية مع الاستبعاد النهائي للأبجدية الفارسية العربية التي تنازعت إيران مع تركيا عليها. ووصلت الأمور بينهما إلى الصراع العسكري غير المباشر في أذربيجان الشيعية، وأرمينيا المسيحية، حيث تواجه البلدان، كل وفقا لمصالحه، فوقفت إيران «الشيعية» إلى جانب أرمينيا المسيحية، وتركيا السنية إلى جانب أذربيجان الشيعية.
ومع وصول حزب «التنمية والعدالة» الحاكم في تركيا اليوم، الى السلطة، توثقت العلاقات بين البلدين، لكنها بقيت على حذر شديد بسبب التنافر المذهبي الذي لم يظهر إلا بعد إندلاع الأزمة السورية ووقوف الطرفين على طرفي النقيض في المعركة. ومع هذا، فقد حافظا على التعاون المشترك في مجالات أخرى.
يرى الخبير اللبناني في الشؤون الايرانية الدكتور نسيب حطيط، ان ايران تعمل على اختراق الاسلام السياسي في المنطقة، بعد تجميد الحوار المصري – الايراني، بهدف «إطفاء الفتنة السنية – الشيعية التي انعكست سلباً على موقع ايران ودورها في المنطقة»، ما دفع طهران الى طرق الباب التركي «كونها تحتاج الى قارب نجاة في هذه المرحلة».
ويشير حطيط لـ»الشرق الأوسط» الى ان طهران تعتبر أن النافذة التركية لها على الدول الاقليمية، فضلاً عن كونها «ضرورة لجذب الجانب التركي اليها، ما ينعكس ايجابا على مسار المعركة في سوريا»، موضحاً أن الانفتاح يرمي الى الحصول على تعاون على مستوى «ضبط حدودها ومنع ادخال المسلحين الاجانب الى سوريا من الأراضي التركية للقتال الى جانب المعارضة».
بالنسبة للعلاقات في المستقبل، يجزم شاهين، بأن تركيا لن تغيير موقفها حيال القضية والصراع في سوريا ، وايضا لن تغير سياستها حيال العراق ولا بالنسبة للبنان، ولكن سيكون تغيرات في الشرق الاوسط سيكون هناك اتفاقيات بين الدول على اساس المصالح بغض النظر عن اختلافهم على موضوع او معضلة ما، مشيرا إلى أن السعودية وتركيا تختلفان على توصيف الوضع في مصر ولكنهما تتقفان على وجهه النظر في المعضلة السورية». ويقول «لهذا اعتقد بان كلما تقاربت ايران مع الغرب فانها ستتنازل ايضا عن بعض المواقف حيال العرق و لبنان وسوريا، إذ انها تستغل تلك الدول وتسيرها خدمة لمصالحها ، تحت اسم محور المقاومة «، متوقعا أن «تبيع إيران سوريا للغرب اذا تم الاتفاق والمصالحة لأن ايران تعيش مشاكل اقتصادية، ففي 2012 عاشت البلاد تضخم مالي وصل الى 200%. مستشهدا مستشار الرئيس الايراني محمد روحاني، محمود سري القلم ، الذي يراه «من اذكى واهم المستشارين» ويشبه بوزير الخارجية التركي احمد داود أوغلو، وهو الرجل الذي يقف وراء التغيرات التي تجري في ايران بقوله أن «مستقبل النظام الايراني مرتبط بمستقبل الاقتصاد الايراني».
ويخلص شاهين إلى أنه اذا تصالحت ايران مع الغرب ستتحول من دولة تدعم الثورات الى دولة براغماتية» مكررا بان تركيا لن تغير سياستها حيال المعضلة السورية ، لكن سيتم نقل الغاز والنفط من شمال العراق عن طريق تركيا وستدعم تركيا الاستقرار في العراق ولبنان، لكن لن تتراجع في مواقفها حيال العراق ، لانة لا يمكن للمالكي ان يحكم في العراق دون موافقة وقبول تركيا، لان المالكي اذا عادى تركيا فانة سيكون لقمة سائغة لايران، كما ان عداوته لتركيا والسنة ستجعل السنة والاكراد يقاطعون الانتخابات ولهذا لا يمكن ان تكون انتخابات بغداد والبصرة شرعية.، ويشدد شاهين على أن العلاقات التركية الايرانية في المستقبل حيال الشرق الاوسط ستكون على اساس المصالح، فالبلدان سيختلفان «في المواقف حيال دولة ما ولكنهما سيتفقان حيال اخرى، اي سيكون بينهما سياسة براغماتية . فالنسبة لسوريا تركيا مازالت مصرة على موقفها وهو ان المرحلة الانتقالية ستكون بلا الاسد، لان تركيا اذا قبلت المرحلة بوجود الاسد فان السياسة التي اتبعتها منذ الازمة ستنزل الى الصفر .
ويشير حطيط الى ان تركيا «لعبت دور المنقذ الاقتصادي لايران في زمن الحظر الاقتصادي»، في اشارة الى ما كشف عنه اخيراً لجهة العلاقات التركية – الايرانية السرية، والتي ادت الى خضة سياسية على مستوى حكومة اردوغان. ولا يرى حطيط أن خطط الانفتاح التركي – الإيراني سيصطدم بعراقيل في المرحلة المقبلة، مستدلاً الى «خسارة رئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان علاقاته مع دول الجوار مثل العراق وسوريا ومصر نظراً لدعم حكومته الاخوان المسلمين، ما يعني أنه لم يبقَ له الا النافذة الايرانية في الاقليم، ريثما تُنجز التسوية السياسية السورية المتمثلة بجنيف 2 وغيره».
ولا ينفي حطيط مصلحة تركية في الاستجابة الى المطلب الايراني، معتبراً أن فتح تلك الابواب هي حاجة تركية بما يتخطى كونها حاجة ايرانية أيضاً، ما يعني ان سقف الانفتاح «سيكون عالياً»، ويوضح: «تركيا تحتاج الى النافذة الايرانية لاستعادة دورها كشريك في الحل السياسي السوري والحل على مستوى المنطقة، كما تحتاج الى الاستعانة بطهران لاعادة ترتيب العلاقات مع سوريا التي يبدو ان التغيير في نظام حكمها في هذا الوقت بات صعباً». ويرى أن تركيا تحتاج الى علاقة مع ايران لمنع تحرك العلويين في الأراضي التركية.
يرى شعبان قاردش رئيس مركز الشرق الاوسط للدراسات الاستراتيجية في تركيا أنه «رغم الخلافات في وجهات النظر بين تركيا وايران حول بعض المواضيع في المنطقة الا انهما مجبران على التعاون في ما بينهما بحكم الجيرة وبحكم علاقتهم بدول الجوار المحيط بهم حيث يؤثروا ويتاثروا بما يجري بها من احداث» ، مشيرا إلى أنه رغم الخلاف فيما بينهما حيال المعضلة السورية الا ان العلاقت بين البلدين لم يصيبها اي تشوهه او ضرر. ويقول لـ»الشرق الأوسط»:» ان ايران وتركيا ستلعبان دورا مهما في تحسين الوضع الانساني في سوريا اذا تم الاتفاق على مسودة لحل الازمة في جنيف 2 وكذلك في اعادة اعمار سوريا من جديد، ولهذا السبب تؤمن تركيا بانه يجب العمل سوريا مع الادارة الايرانية بهذا الخصوص».
وفي المقابل، يفند قارديش، نقاط الإختلاف بين البلدين، خصوصا في الملف الكردي. ويشير إلى وجود «إختلاف في وجهات النظر في ما خص المعضلة الكردية»، موضحا أن تركيا «بدأت مفاوضات مع زعيم حزب العمال الكردستاني عبدالله اوجلان، لكن ايرن لم يعجبها واظهرت تذمر من هذه الخطوة لان تركيا لم تشركها ، كما ان التقارب التركي مع رئيس اقليم كردستان العراق مسعود البرزاني ايضا شكل قلقا كبيرا لايران، كما ان سياسة ايران حيال اذربيجان لا تتفق مع سياسة تركيا في منطقة القوقاز. لهذا الخلافات في وجات النظر والسياسات الخارجية لكلا البلدين كبيرة ومعقدة جداً».
ومع هذا كله يرى قارديش أن البلدين محكومان بالتعاون فـ» كما ان تركيا محتاجة الى ايران فان ايران محتاجة الى تركيا، وكما ان تركيا مهمة بالنسبة الى ايران، فان ايران ايضا مهمة بالنسبة لتركيا». ويضيف:» وبما ان الدولتين هما الأقوى في المنطقة اقتصاديا وجيوبلتيكيا، فإنهما ستتعاملان مع علاقتهما من خلال نقاط الاتفاق وليس نقاط الخلاف مع ان سوريا وشمال العراق مهمة لكلا الطرفين ولكن الاهم ايضا هو استقرار المنطقة».