العلاقات الروسية الإسرائيلية: شراكة وتناقضات (تاتيانا نوسينكو)

 
تاتيانا نوسينكو 

 

أصبح التطور المكثف للعلاقات مع إسرائيل إحدى السمات المميزة للسياسة الروسية في الشرق الاوسط بالسنوات الاخيرة. فقد عبّر أول سفير روسي في إسرائيل الكساندر بوفين، الذي تم تعيينه العام 1991 بعد استعادة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، في مذكراته عن أسفه قائلاً: «لم نتمكن خلال خمسة أعوام ونصف من عملي من تحقيق أي مشروع روسي – إسرائيلي ضخم». أما الآن فتُقدَّر مثل هذه المشاريع بالعشرات.
وتمكّن العديد من المهاجرين القادمين في التسعينيات من القرن العشرين، من روسيا والجمهوريات السوفييتية السابقة، الذين بلغت بفضلهم نسبةُ الروس القاطنين في اسرائيل 20 %، من تحويل تفوُّقهم العددي إلى «رأسمال سياسي». وتعتبر اللغة الروسية اللغةَ الامّ بالنسبة لعدد من اعضاء الكنيست بتشكيلته الأخيرة.
وتضم حكومة بنيامين نتنياهو أربعة وزراء (من أصل ثلاثين وزيراً) متحدرين من الاتحاد السوفياتي السابق. ويشغل أحدهم، افيغدور ليبرمان، منصب وزير الخارجية. وأصبح الإسرائيليون الناطقون بالروسية «وسيطاً هاماً» للاتصالات بين البلدين. فقد اعترف السفير الروسي السابق في إسرائيل بيتر ستيغني بأن «العامل البشري» اتى بنظرة روسية جديدة إلى ما يجري في إسرائيل بمشاكلها، و«عُقَدِها» وأخطائها ومنجزاتها».
تدرس النخبة الإسرائيلية الناطقة بالروسية بجدية، سعياً منها لتوطيد مواقعها في أجهزة السلطة، إمكانية تشكيل تحالف روسي – إسرائيلي جديد مستقبلاً، من شأنه أن يصبح (وإنْ لم يكن بديلاً) «مقابلا» للشراكة الأميركية – الإسرائيلية. وأعلن عن هذا الهدف في برنامجه الانتخابي العام 2009 افيغدور ليبرمان زعيم حزب «إسرائيل بيتنا»، الذي يمثل أساساً «إسرائيل الروسية».
وبالفعل، فإن روسيا حريصة على توسيع العلاقات مع إسرائيل. إن الاقتصاد الإسرائيلي القائم على استخدام التقنيات العالية، وتجربة إسرائيل في مجال تنمية مختلف قطاعات الاقتصاد في الظروف الطبيعية المعقدة، والآفاق المشجعة التي ذر قرنُها للاستثمار المشترك لاحتياطات الغاز التي تم استكشافها في إسرائيل، والتجربة الإسرائيلية في مكافحة الإرهاب، إنها بعض المجالات التي يمكن أن يصبح التعاون فيها مفيداً بالنسبة لروسيا. ومع ذلك فلا مبرِّر لأية حسابات مبنية على كوْن روسيا قادرةً على انْ تأخذ على عاتقها الأعباء الثقيلة الخاصة بضمان قدرات إسرائيل الدفاعية والأمنية، والتي تتحمّلها الولايات المتحدة على مدى عقود من السنين. إن الولايات المتحدة لا تزال تبقى المورِّدَ الرئيس الأهم، لأحدث الأسلحة إلى إسرائيل، كما يُخصص لإسرائيل ما يربو على 50% من برنامج البنتاغون لتمويل المساعدات العسكرية إلى البلدان الأجنبية. وبالإضافة إلى ذلك، يُخصص سنوياً زهاء 200 مليون دولار للخطط الأميركية – الإسرائيلية المشتركة للدرع الصاروخية.
وتعتبر الشركات الأميركية شركاء رئيسيين للإسرائيليين في تنفيذ الطلبات العسكرية للبلدان الثالثة، وهي تعرقل، في حالات كثيرة، إقامة التعاون الروسي – الإسرائيلي في هذا المجال.
وقد صرح الخبير المعروف في العلاقات الاميركية الروسية والعامل في مركز «Heritage» آرئييل كويين، في أحد أحاديثه الصحافية بأن واشنطن لن ترغب، على الأرجح، في تقوية روسيا المفرطة في مجال التقنيات الحديثة والتحديث السريع للقوات المسلحة الروسية على حساب التعاون مع إسرائيل. إن أحد الأمثلة التي تؤكد وجهة النظر هذه، هو الضغط الأميركي، الذي مورس على الحلفاء الإسرائيليين العام 2008 في سياق محاولات إحباط صفقة بيع طائرات بلا طيار إلى روسيا. وترد من الولايات المتحدة إلى إسرائيل أموالٌ ضخمة سواء في إطار المساعدة الحكومية أو المساعدات الآتية من الجالية اليهودية الأميركية، وتعجز خزانة الدولة الروسية واليهود الروس عن التنافس مع هذه المساعدات، وليس لديهم النية في ذلك.
إن النخبة الإسرائيلية التقليدية تنظر إلى روسيا على أنها بلد، تسوده القيم والثقافة السياسية الغربية. وتجلى ذلك بوضوح بصدد اشتداد الهجمات على زعيم حزب «إسرائيل بيتنا» ووزير الخارجية أفيغدور ليبرمان وأنصاره، الذين تقدموا في الكنيسيت في يناير (كانون الثاني) عام 2011 بمبادرة تشكيل لجنة للتحقيق في نشاطات المنظمات الإسرائيلية لحقوق الإنسان. ويقوم الناشطون الإسرائيليون في مجال حقوق الإنسان بمراقبة وضع الفلسطينيين في الأراضي المحتلة والاعمال العسكرية الإسرائيلية تجاه المدنيين، ويؤمنون جمع معلومات عن طبيعة أعمال القوات الإسرائيلية إبّان عملية «الرصاص المسكوب» في قطاع غزة. ويثير نشاطهم سخطاً شديداً لدى الأوساط اليمينية ذات النزعة القومية، التي تَعتبر هذا النشاط خيانة لمصالح الدولة. لكن البنية المتفرعة للمنظمات الاجتماعية اليسارية واليمينية تبقى، من منظور النظام الديموقراطي الإسرائيلي بكل ما يميزه من خصائص وقيود، دليلاً على وجود مجتمع مدني فاعل في البلاد.
فإذا لم يتجاوز نشاط هذه المنظمات الإطار القانوني، فإن أحداً لا يشكك في شرعية هذا النشاط. وينظر كثيرون في إسرائيل إلى السعي لوضع ناشطي حقوق الإنسان تحت الرقابة القاسية، على أنه نتيجة لـ «زحف» متحدرين من الاتحاد السوفياتي السابق إلى هيئات السلطة، علماً بأنهم لا يملكون ـ من وجهة نظر الإسرائيليين ـ تجربة الحياة في مجتمع ديموقراطي طبيعي، بل تعودوا على قمع أي مخالف في الرأي، «على الطريقة السوفياتية». وانتشر في وسائل الإعلام مصطلح «لَبَرْمَنَة»، بحيث أصبح مرادفاً لضغط مناهض للديموقراطية ومحاولة كسب شعبية، مما يميز الساسة «الروس».
وجدير بالذكر أن المهاجرين من الجمهوريات السوفياتية السابقة ينتمون إلى عدد من الكتل الحزبية الأخرى في الكنيست، ولا يمكن نسبهم بلا أساس إلى شركائهم في الرأي من حزب «إسرائيل بيتنا». بيد أن السخط الذي تعبر عنه بشكل خاص، الأوساط الليبرالية اليسارية رداً على «هجمات» ليبرمان السياسية يستهدف جميع الناطقين بالروسية. وليست هذه الأجواء مناسبة لذكر مساهمة حاسمة من جانب اليهود المنحدرين من الإمبراطورية القيصرية السابقة، في تكوُّن أساس الدولة، الذي يقوم عليه اليوم صرح الديموقراطية الإسرائيلية بأسره.
فإن «الحكم» على الناطقين بالروسية لا يقوم على أثرهم الثقافي في الأدب والفن الإسرائيلي، ولا على حصتهم في إنشاء الإقتصاد الاسرائيلي المبني على استخدام التقنيات العالية. فإن السخط الشديد من الطابع المناهض للديموقراطية المميز للمهاجرين من روسيا ينتقل الآن آلياً إلى روسيا الجديدة. ويُنظر إلى العلاقات معها عبر منظار التقييم السلبي للنشاط السياسي، الذي يقوم به المهاجرون الجدد، حيث كانت تتعالى منذ عقدين من السنين أصواتٌ تدعوهم بإلحاح للهجرة إلى إسرائيل، غير أنهم يتحوّلون الآن إلى منافسين خطرين غير مرغوب فيهم للنخبة الإسرائيلية القائمة. إن مثل هذه الأجواء التي تشكّل الرأي العام بهذه الطريقة، لن تساعد على الأرجح، على التقارب السياسي الوثيق للبلدين.

روسيا: صديق أم عدو؟
إن تقدم روسيا إلى سوق الأسلحة الشرق أوسطي يبقى عاملاً يثير حفيظة الإسرائيليين، بسبب تسليح سوريا وإيران. إن تضمين هذا الموضوع «ذكريات» عن أزمنة « الحرب الباردة»، حين حاربت الجيوش العربية إسرائيلَ بالسلاح السوفياتي سواء في عام 1967، أم في العام 1973 ، يجعله «مؤلماً» للغاية. كما تؤكد وقائع الماضي القريب على صحة مخاوف إسرائيل من أن الأسلحة الروسية ستكون موجَّهةً ضدها. ففي أثناء الحرب اللبنانية الثانية العام 2006 ، استخدم مقاتلو «حزب الله» صواريخ «كورنيت» المضادة للدبابات، التي كانت قد قامت روسيا بتوريدها إلى سوريا. إن بعض الساسة الإسرائيليين، وفي مقدمتهم، منحدرون من الاتحاد السوفياتي السابق، يرون إمكانية تخفيض المخاطر المتصلة بتقوية سوريا وإيران على حساب شرائهما المعدات الحربية الروسية عبر توسيع التعاون العسكري الإسرائيلي – الروسي. وتعليقاً على التوقيع على الاتفاقية الروسية – الإسرائيلية بشأن التعاون العسكري – التقني، صرح عضو الكنيست أحد رئيسي الاتحاد البرلماني المشترك «إسرائيل – روسيا»، زئيف إيلكين، بأن إسرائيل تسعى لجذب أهتمام روسيا بطرح مشاريع تجربة مشتركة كي تأخذ القيادة الروسية ورجال الأعمال الروس بعين الاعتبار مصالحَ إسرائيل بمزيد من الجدية.
بيد أن غياب الثقة بروسيا (بشكل تقليدي) بوصفها لاعباً في حلبة الشرق الأوسط مناهضاً ليس لإسرائيل وحدها، بل وللغرب، يدفع الإسرائيليين إلى التشكيك في آفاق الشراكة معها. فإن روسيا يُشتبه فيها بالعزم على استعادة مواقعها المفقودة في الشرق الأوسط جراء انهيار الاتحاد السوفياتي، وذلك بواسطة توحيد كتلة بلدان مناهضة للغرب بحكم طبيعتها. فإن جريدة «جيروزاليم بوست» التي أوردت كل التعاقدات الروسية الأخيرة المبرمة مع سوريا وإيران بشأن إمدادات بعض أنواع الاسلحة، مشيرة إلى احتمال وقوع هذه الأسلحة بأيدي التجمعات الإسلامية الراديكالية التي تحارب إسرائيل (مثل «حزب الله»، و«حماس»)، تتوصل إلى استنتاج «حادّ»، مفاده أن «روسيا لا يمكن اعتبارها في الوقت الحاضر شريكاً أميناً فيما يتعلق بمهام السياسة الخارجية والاعتبارات الأمنية».
إن بيع الأسلحة إلى البلدان العربية يُعتبر بالنسبة لروسيا صفقة تجارية محضة. فإن ذلك ما تقوم به الولايات المتحدة وغيرها من البلدان الغربية التي تبيع المعدات الحربية والأسلحة بمبالغ تُقدر بملايين من الدولارات إلى الدول المعروفة كخصوم إسرائيل. إن مثل هذا التعاون لا يتنافى والقانون الدولي، لا سيما أن الطرف الروسي يسعى جاهداً لتحقيق أقصى حد من الشفافية لصفقاتها مع الشركاء الإقليميين، حيث تضمِّن روسيا هذه الصفقات تعهداتٍ يأخذها على عاتقه «المنتفع النهائي»، بعدم تسليم الأسلحة المورَّدة إلى أطراف ثالثة. ومن جهة أخرى فإن متابعة تنفيذ هذه الشروط والتعهدات أمر في غاية الصعوبة، إنْ لم يكن مستحيلاً، في ظل النزاعات التي تسود الشرق الأوسط، والنشاط الخالي من أي مراقبة من قبل اللاعبين الإقليميين، مثل «حزب الله» و«حماس». ومع ذلك تقدِّم موسكو في بعض الحالات تنازلات متراجعةً عن مصالحها التجارية. ففي سبتمبر/أيلول العام 2010 وقع الرئيس ديمتري ميدفيديف مرسوماً يقضي بحظر بيع صواريخ «إس-300» إلى إيران، بسبب العقوبات المفروضة في مجلس الأمن الدولي على طهران. إن صواريخ إس ـ 300 «تعتبر أحد أكثر منظومات الدفاع الصاروخي فعاليةً في العالم. وكان يمكن لشرائها (لو تمّ) أن يجعل إيران أقلَّ تعرُّضاً لخطر ضربة عسكرية أميركية أو إسرائيلية. وتفيد أنباء وسائل الإعلام بأن القيادة الإسرائيلية أقدمت ـ استجابةً لمطالب موسكو – على تقليص التعاون العسكري مع جورجيا، وذلك لحثِّ الطرف الروسي على اتخاذ هذا القرار.
لم تتراجع روسيا عن عزمها على تزايد دورها في تسوية النزاع العربي – الإسرائيلي. فمن منظور مصالح روسيا الوطنية، تتصدر إقامةُ السلام قائمة المهام ذات الأولوية، وتكتسب العلاقات الجيدة المبنية على الثقة مع إسرائيل، أهميةً خاصة في هذا السياق. ومع ذلك لا يجوز أن يتناسى المرء أن الحكومة الإسرائيلية الحالية، تمارس بشكل، لم يسبق له مثيل خلال السنوات العشرين الاخيرة، التعنتَ والعنادَ، رافضة أي حل وسط مع الطرف الفلسطيني. وهكذا فإن روسيا تقع في مصيدة مصالح سياسية خارجية «تصادمية»، حيث أن المستوى العالي المنقطع النظير لعلاقاتها مع إسرائيل، يضع روسيا في وضع بلدٍ يشجع في الواقع الزعماء الأقل ميْلاً لخوض مباحثات سياسية.
وفي غضون ذلك ليس ثمة أي أساس للاعتماد على مساعي الوساطة الروسية في تسوية النزاع، من جانب الساسة الناطقين بالروسية. فمثلا، صرح أفيغدور ليبرمان، في معرض أقواله الواعدة بشأن آفاق الشراكة بين روسيا وإسرائيل، رداً على سؤال خاص بدور روسيا والرباعية الدولية في تقدم السلام: «يحدوني الأمل بأن الرباعية ستتركنا وشأننا وستتناسى وجودنا». ويبدو أن الإسرائيليين «الروس» لا يعتزمون المساهمة في الترويج لمصالح موسكو السياسية في هذا المجال الحساس.
ان بعض الخبراء الروس الذين تكوَّن بينهم خلال العقود الاخيرة من السنين «اللوبي» الموالي لإسرائيل، يشككون في دور روسيا في التسوية الشرق أوسطية، زاعمين أن مصالح روسيا تكمن في المجال الاقتصادي قبل غيره. إن إقامة الدولة الفلسطينية، من هذا المنظور، لا تحمل في طياتها أية منافع بالنسبة لروسيا، فيما تعتبر العلاقات مع إسرائيل واعدةً جداً من منظور المستقبل. إن مثل هذه «الحتمية» الاقتصادية المبتذلة من شأنها أن تزيل قضية النزاع بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وتُبعد الى المقام الثاني (إنْ لم نَقُلْ «تشطب») مسألة ضرورة احتواء التناقضات الفلسطينية الإسرائيلية في اثناء المفاوضات السياسية. أما سياسة روسيا الشرق أوسطية، فيبقى أحدَ مكوناتها الرئيسية، التمسكُ بمبدأ تسوية النزاع، وتفهُّم واقع أن تحقيق سلام وطيد في المنطقة مستحيل من دون حل القضية الفلسطينية. لذا فإن الساسة أو الديبلوماسيين الروس لا يرون بديلاً آخر للحوار، مهما كان صعباً وطويلاً ومهما تطلب من القوى والشجاعة، من الطرفين. وفي اثناء مثل هذا الحوار، ينبغي أن تُبنى رؤيةٌ جديدة لتعايش إسرائيل مع جيرانها العرب عل أساس الشرعية الدولية المعترف بها.
وترى روسيا أن من المفيد، باستغلال سمعتها في العالم العربي، خوضَ حوار مع منظمات مثل «حماس»، التي تحتل مواقف أكثر تطرفاً إزاء اسرائيل. لقد أشار رئيس لجنة الشؤون الدولية في مجلس الاتحاد الروسي ميخائيل مارغيلوف، إلى أن الاتصالات مع «حماس» هامة، لأنها تحمل طابعاً إعلامياً، وبالاضافة الى ذلك، فإن هذه الاتصالات تسمح بمحادثة ممثليه مباشرة، وبدون وساطة من قبل الإيرانيين والسوريين. وتهدف الاتصالات الروسية مع الجناح السياسي لـ «حماس» إلى دفع زعماء هذه المنظمة إلى القبول بشروط الاعتراف بها من قبل المجتمع الدولي وإلى اتخاذ موقف أكثر واقعيةً إزاء مسألة استعادة الوحدة الفلسطينية المطلوبة لتحقيق تقدّم على طريق التسوية السلمية.
إن «الحضور الروسي» في إسرائيل لا يُمثَّل بحوالى مليون من سكانها الناطقين بالروسية فحسب، بل وبتراث روسيا المتمثل في كنائس وأديرة ومبانٍ متنوعة وقِطعٍ من الأرض، أي ما صنعه المسيحيون الأرثوذكس الروس في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. وخلال الفترة الممتدة بين عامي 1857 و1914، اشترت البعثة الدينية الروسية في القدس والجمعية الإمبراطورية الأرثوذكسية الفلسطينية أكثر من 65 قطعة أرض يبلغ مجموع مساحتها زهاء 150 هكتاراً. وزادت هذه الأملاك بست مرات عن أراضي كريملين موسكو المعاصر. ويقع الجزء الأكبر من هذه الأراضي في القدس وضواحيها، لكن قِطعًا أخرى من الأرض تم شراؤها في بيت لحم وأريحا وعند بحر الجليل والخليل وحيفا وعدد من المواقع الأخرى. أشارت الصحف الإسرائيلية المعاصرة إلى أن روسيا بنت في فلسطين أكثر مما بنته بريطانيا التي أدارت هذه الأراضي على مدى ثلاثين عاماً تقريباً.
عاد الجزء الأكبر من الأملاك الروسية إلى البعثة الدينية، غير أن الجمعية الفلسطينية، كانت بحوزتها أملاكٌ ضخمة. وتم تسجيل هذه الأملاك وفقاً للقواعد العاملة في الإمبراطورية العثمانية، حيث خُصص جزء منها للحكومة القيصرية، وسُجل جزء آخر على أسماء النبلاء منهم الأمير العظيم سيرغي الكساندروفيتش، الذي شارك بشكل فعال في نشاط الجمعية الفلسطينية، كما سُجّل جزء محدد من هذه الأملاك بصفة الوقف الشرعي. وجدير بالذكر أن هذه الأملاك تم شراؤها من خزانة الدولة، أساساً، لا بأموال خاصة. غير أن غياب ذكر «الدولة» (في الأوراق الرسمية)، كشخصية اعتبارية تتمتع بحق حيازة الملكية، شكل لاحقاً حواجز عديدة عرقلت إعادة الاملاك الروسية الى الاتحاد السوفياتي السابق، ومن ثم إلى روسيا.
أقرّت سلطات الانتداب البريطانية في العام 1926 «توجيهات بشأن إدارة الأملاك الروسية»، ثبَّتت وضعها كطرف وحيد تصرَّف بالأملاك الروسية في فلسطين. وفي القدس أقيمت على الأرض الروسية وفي المباني الروسية ـ مقابلَ أدنى أجرة ـ مؤسساتٌ حكومية بريطانية، مما خلق سابقةً استغلتها دولةُ إسرائيل بعد العام 1948.
وفي السنوات الاولى بعد قيام إسرائيل، سُلِّم إلى الكنيسة الروسية عدد من قطع الأرض والمباني الواقعة على أرضها وفي القدس الغربية. اما الأديرة والكنائس الروسية الواقعة على أراضٍ أدارها الاردن، فبقيت ملكاً للكنيسة. وفي اكتوبر/تشرين الأول العام 1964 وقعت وزيرة الخارجية الإسرائيلية غولدا مائير والسفير السوفياتي في إسرائيل ميخائيل بودروف اتفاقية، دخلت التاريخ باسم «الصفقة البرتقالية». فقد باعت حكومة نيكيتا خروشوف إلى أسرائيل، مقابل لا شيء، في واقع الأمر، اي مقابل مبلغ 4,5 مليون دولار 22 منشأة (أملاكاً عقارية) واقعة على أرضها.
وفي النصف الثاني من الثمانينيات من القرن العشرين، حين وصل إلى إسرائيل فريق قنصلي للديبلوماسيين الروس، طُرحت مسألة الأملاك الروسية. وبدأ الطرفان في دراسة هذه القضية منذ اوائل التسعينيات من القرن العشرين، حين استعادت روسيا العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل، وأسست سفارتها في تل أبيب. ودار الحديث بالدرجة الأولى عن إعادة تسجيل كنيسة الثالوث المقدس، ومبنى البعثة الدينية الروسية بمبانيها المتاخمة لها وقطعة أرض في شارع الملك جورج في وسط القدس، إلى الحكومة الروسية. واستمرت المباحثات خلال بضعة أعوام. وتباطأت اللجنة الإسرائيلية المعنية بدراسة مسألة الأملاك الروسية، والتي تمّ تشكيلها في السنوات السوفياتية، في الاعتراف بروسيا كوريثة للاتحاد السوفياتي السابق. وبالرغم من أن روسيا وقعت، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، عدداً من الاتفاقيات مع الجمهوريات الاتحادية السابقة التي نصّت على أنها (روسيا) ستحصل على كل الأملاك السوفياتية في الخارج مقابل شطب الديون المستحقة على الاتحاد السوفياتي، إلا ان السلطات الاسرائيلية خشيت من مطالب أوكرانيا (مثلاً) بها.
وفي خريف العام 1996، أثناء زيارة وزير الخارجية الروسي آنذاك يفغيني بريماكوف إلى إسرائيل، سُلِّمت اليه وثائقُ تثبِّت لروسيا الاتحادية الحقَّ في الأملاك المذكورة. وتم تسليم المباني الكنسية المعادة، إلى الكنيسة الارثوذكسية الروسية على الفور، بموجب مرسوم أصدره الرئيس الروسي. وطالت قصة تسليم «بيت سيرغي»، أي مجموعة المباني الواقعة في وسط القدس إلى روسيا. وبينت التعقيدات الخاصة بهذه المسألة بوضوح، سعي إسرائيل لربط تسوية قضايا الملكية بحل مهامها السياسية الخارجية. وفي خريف العام 2008، أثارت قلقاً بالغاً لدى السلطات الإسرائيلية نيةُ روسيا عقدَ معاهدة بشأن التعاون العسكري مع سوريا، وكذلك ما تردد من شائعات بإعداد العدة لبيع صواريخ «إس -300 « إلى إيران. ففي ذلك الوقت بالذات جاء رئيس الوزراء إيهود أولمرت إلى موسكو بقرار الحكومة الاسرائيلية تسليم «بيت سيرغي» إلى روسيا.
يظهر تاريخ العلاقات الروسية – الاسرائيلية خلال العقود الأخيرة أن الطرفين يتعلمان أثناء التعاون بينهما التغلبَ على سوء التفاهم والاعتبارات المتكوّنة تاريخياً، وإيجادَ مخرج من الأوضاع المعقدة التي تتسبب فيها مصالح إقليمية يستبعد بعضها البعض. غير أن تطور التعاون الثنائي الواسع النطاق لا سيما في المجال العسكري التقني، سيعرقله غيابُ الثقة بروسيا بسبب توجيه صادراتها العسكرية إلى بلدان معادية لإسرائيل، وبسبب الموقف الإسرائيلي المستقل من الملف النووي الإيراني. وستعرقل الإدارة والشركات الأميركية هي الاخرى، هذا التعاون.

 

معهد الاستشراق، الأكاديمية الروسية للعلوم

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى