العلاقات المصرية – الروسية:أحلام شعبية في عالم متعدّد الأقطاب (سيد تركي وأحمد علّام)
سيد تركي وأحمد علّام
"مصر سترجع إلى روسيا (الاتحاد السوفياتي) مرة أخرى"… تداعب هذه الجملة خيال رجل الشارع المصري حالياً، وسط حالة من الاحتفاء الكبير بعودة وفد "الديبلوماسية الشعبية" المصري من زيارته الثانية لموسكو هذا الأسبوع، والزيارة المرتقبة للوزيرين الروسيين سيرغي لافروف وسيرغي شويغو الى القاهرة اليوم.
لكنْ للباحثين رأي مختلف: "العالم في طور إعادة التشكيل بعد عالم القطب الواحد منذ بداية التسعينيات. العالم الجديد متعدد الأقطاب، والرهان على طرف دولي واحد، رهان خاسر"، يقول الدكتور محمد فهمي منزا، أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة الأميركية في القاهرة.
وانطلاقاً من ذلك، يرى منزا أن "روسيا لن تحل محل أميركا، لكن انحسار الدور الأميركي في العالم وفي منطقة الشرق الأوسط تحديداً سيساعد في (تسخين) العلاقات مع موسكو مع استمرار الولايات المتحدة في موقعها كلاعب رئيس في سياسة المنطقة، بما فيها مصر".
ما ذهب إليه منزا، أكد عليه اللواء محمد فريد التهامي، رئيس جهاز المخابرات العامة المصري في حديث إلى الصحافي ديفيد إيغناسيوس في مدونته على موقع "واشنطن بوست"، أمس الأول، حين ألمح الى أن العلاقات المفتوحة بين أجهزة التجسس الأميركية ونظيرتها في مصر لها "قناة مستقلة" عن مثيلتها في العلاقات السياسية.
التهامي، الذي أقاله الرئيس المعزول محمد مرسي من منصبه في هيئة الرقابة الإدارية، أحد أجهزة مكافحة الفساد الإداري في الدولة المصرية، بعد اتهامات لم تثبتها تحقيقات نهائية بالفساد، وزميل الفريق أول عبد الفتاح السيسي في المخابرات الحربية، قال في الحوار أنه "على اتصال منتظم بنظيره جون برينان، مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه)، برغم تعليق تسليم بعض الأسلحة الأميركية إلى مصر، والحديث عن علاقات عسكرية مع روسيا".
يعلّق منزا على هذا الحوار بالقول: "لأي دولة في علاقاتها الدولية حدّان الأول هو التحالف الكامل، والثاني هو القطيعة الكاملة، وما بين هذين الحدين هناك مساحة واسعة للغاية على الدول استغلالها".
ويضيف: "بالنسبة إلى مصر، فإنه إبان حكم حسني مبارك كانت العلاقات مع أميركا محصورة في الحد الأول، وقد استمرّ الوضع على ما هو عليه في عهد مرسي الذي اعتمد عليهم (الأميركيين) في استمرار حكمه".
"روسيا تستحوذ على نسبة 30 في المئة من حجم تجارة السلاح في العالم وتحتكره شركات تابعة للدولة، وحجم الجيش المصري يغري بفتح سوق جديدة وكبيرة"، يقول منزا عن العامل الاقتصادي كأحد أسباب التقارب، موضحاً انه "إلى جانب الربح السياسي، يعتبر الجيش المصري من بين أكبر 15 جيشاً من حيث التسليح وأعداد الجنود في العالم، ولا يجب أن نغفل أن إحدى ركائز العلاقات المصرية الأميركية كانت الدعم العسكري للجيش المصري، ويبدو أن روسيا ترغب في اقتسام الكعكة الاقتصادية – السياسية".
مداعبة الخيال الشعبي بذكريات الخمسينيات والستينيات، يقول عنه السفير المصري السابق في روسيا رؤوف سعد، وهو عضو وفد الديبلوماسية الشعبية العائد من موسكو أن "مصر الآن في مرحلة صيانة للعلاقة التاريخية، وليس إطلاقها من أول السطر، ولكن تجب مراعاة أن روسيا اليوم ليست هي الاتحاد السوفياتي، وهذه نقطة مهمة يجب أن يأخذها المصريون في الاعتبار، وأن يبدأ صانع القرار المصري بإعادة صياغة العلاقات الدولية لمصر مع دول العالم وليس مع روسيا".
ويشرح سعد قائلاً "العلاقات المصرية – الروسية كانت عادية حتى جاء الظرف التاريخي ("ثورة 30 يونيو") الذي أفرز تطوراً جديداً"، مشيراً إلى أن موقف الرئيس فلاديمير بوتين المؤيد للثورة الثانية ينمّ عن إدراك حقيقي لما حدث في مصر على يد المنتمين إلى تيار الإسلام السياسي.
ويضيف أن "الموقف الروسي جاء بالتزامن مع رد الفعل الغربي، وتحديداً الولايات المتحدة الرافض للإرادة الشعبية".
ويستدرك الديبلوماسي المصري قائلاً أن "تطوير العلاقة مع روسيا لا يجب أن يكون إحلالياً، بمعنى أن تحل موسكو محل واشنطن، لأن هذا ليس من مصلحة القاهرة في الأساس، وذلك برغم الشعور العام بضرورة اللجوء إلى موسكو بديلاً عن واشنطن بسبب موقف الأخيرة من الإخوان المسلمين".
وحول أبعاد التقارب الجديد بين روسيا ومصر، يقول منزا: "حتى نفهم ما يحدث دون تهويل أو تهوين من شأن التقارب المصري الروسي، لا بد أن نفهم وضع روسيا الحالي. هذا البلد واحد من أكبر الاقتصادات النامية، وقد حقق خلال العشر سنوات الأخيرة نمواً مقداره 7 في المئة. وتزامن ذلك مع نمو سريع للطبقة المتوسطة، إضافة إلى النمو في قطاع النفط والغاز".
ويضيف "هذه المدخلات الاقتصادية لا بد أن تتواكب مع نمو في الدور السياسي، وهذا ما نشاهد آثاره حالياً في منطقتنا العربية".
لا يغفل منزا كذلك دور الاحتفاء الشعبي واستعادة ذكريات الاتحاد السوفياتي في علاقته بمصر زمن عبد الناصر، مؤكداً أن هذا العامل يساعد من دون شك كأحد عوامل القوة الناعمة لأي دولة. ولكن المهم ألا تتعامل الحكومة المصرية مع ذلك باعتباره واقعاً، لأن الوضع العالمي حالياً لم يعد "شرق في مواجهة غرب"، من دون نفي وجود منافسة محتدمة بين روسيا ودول الـ"بريكس" كقوة اقتصادية وسياسية جديدة تلعب من أجل "عالم متعدد الأقطاب".
ويرى منزا أن "الروس كانت لهم علامات استفهام على موجة الثورات العربية بشكل عام، فقد كانوا في البداية متشككين، ومدفوعين بالسؤال البراغماتي: وماذا بعد؟ وكان تحليلهم أن التفاحة ستسقط في حُجر قوى الإسلام السياسي الذي يتخوفون منه بشكل كبير، مدفوعين بتجربتهم في الشيشان، لكنهم عقب سقوط القذافي في ليبيا، بدأوا في العمل للحيلولة دون سقوط نظام الرئيس السوري بشار الأسد وخسارة دولة أخرى حليفة، وها هم الآن يدخلون مرحلة جديدة ليس فقط عبر مساعدة نظام يتهاوى كما هو الحال في دمشق، وإنما عبر مزاحمة الأميركيين في ملعب استراتيجي انفردوا به طوال أربعين عاماً من حكم الرؤساء أنور السادات وحسني مبارك ومحمد مرسي، وبين الأخيرين والمجلس العسكري برئاسة المشير حسين طنطاوي".
تأثير تقارب موسكو – القاهرة على العلاقات مع الخليج وإيران يصفه منزا بـ"كرة الخيط المتشابكة".
ويشرح: "روسيا تدعم النظام الحالي في مصر وكذلك دول الخليج المدفوعة بتخوف من توغل الإخوان المسلمين كتنظيم له أذرع دولية، وفي الوقت ذاته، تتعارض مواقف مصر مع السعودية في الشأن السوري، ففي الوقت الذي ترى القاهرة فيه الحل في سوريا لا بد أن يكون تفاوضياً على الطريقة الروسية، ترغب المملكة في حرب تزيح نظام الأسد كما يريد الديموقراطيون في البيت الأبيض".
كذلك، يرى أستاذ العلاقات الدولية أن دول الخليج بدأت تشعر بانحسار التأثير الأميركي، وهو ما تجلى في تجنب الضربة العسكرية على سوريا، وتنفيذ الخطة الروسية، بما أظهر إدارة اوباما في مظهر العاجز عن التأثير والفعل.
ويضيف "أعتقد أن دول الخليج، وعلى رأسها السعودية، ستلجأ للانخراط في حوار أعمق مع الجانب الروسي، في ظل وجود تقارير سابقة أشارت إلى وجود حوارات بين السعودية وروسيا محورها تخلي الأسد عن السلطة في مقابل إتاحة الفرصة لموسكو للاستثمار في ملف الطاقة، لكن الجانب الروسي رفض ذلك لعدم وجود ضمانات كافية، غير أن العرض في حد ذاته دليل على فتح باب جديد للعلاقات".