العلاقات المصرية ـ الأميركية بعد الثورة (سمير كرم)

 

سمير كرم

الأمر الذي لا شك فيه وسط الوضع الغامض الملتبس نتيجة تأثيرات الثورة المصرية على العلاقات المصرية ـ الاميركية، هو ان اميركا كانت قد نجحت في إقامة اقوى العلاقات مع الجيش المصري، ولكنها لم تنجح في اقامة علاقات بالدرجة نفسها من القوة مع الشعب.
من زاوية ما، يبدو هذا امراً طبيعياً فإن الشعب تعبير أعقد كثيراً من تعبير الجيش، وبالتالي فإن إقامة علاقة مع شعب امر بالغ الصعوبة، وأسهل منه كثيرا اقامة علاقة مع جيش. مع ذلك فإن علاقة اميركا بشعب مصر تبدو اعقد كثيرا من علاقات اميركا بأي شعب آخر، سواء في المنطقة التي تقع فيها مصر، او في اي منطقة اخرى. ويشمل تعقيد العلاقة بين أميركا والشعب المصري الجوانب التاريخية التي مرت بها هذه العلاقة، خاصة منذ ثورة «23 يوليو» 1952، فضلا عن الجوانب الاخرى الاقتصادية والثقافية. أما العلاقة بين الشعب المصري وأميركا بعد ثورة «25 يناير» 2011 فانها تنبئ عن تعقيدات اكبر وأخطر. هذا فضلا عما أضافته ثورة 30 حزيران 2013 من تعقيدات. والأحرى ان نقول ما كشفت عنه الثورتان من جوانب لهذه العلاقات لم تكن واضحة من قبل.
إن حدة التناقض بين اميركا والشعب المصري تجاوزت كثيراً التناقض بين أميركا والجيش المصري. استطاعت أميركا ان تقيم اقوى العلاقات مع الجيش المصري على مدى السنوات منذ بداية رئاسة انور السادات لمصر، وخاصة بعد «حرب تشرين» 1973. ولكن العلاقات مع الشعب بقيت تتسم بدرجة من الضعف، او فلنقل إنها تراوحت في درجة ضعفها ووصلت الى اقصى درجات الضعف في السنوات الاخيرة من عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك. ولهذا فإنه عندما وقعت الثورة ضده، وجد الشعب المصري نفسه في مواجهة مع اميركا في وقت واحد مع مواجهته لمبارك وحكمه. وترددت أميركا في ان تتخذ موقفاً صريحاً مع الثورة المصرية، الامر الذي اصاب علاقتها بالشعب بأضرار كثيرة.
سارعت الولايات المتحدة الى اتخاذ موقف تأييد للثورة مطمئنة الى ان صعود «الاخوان المسلمين» الى السلطة في مصر يمثل خطوة ايجابية جديرة بالترحيب بحكم العلاقات الوثيقة بين اميركا و«الاخوان» على مدى عقود طويلة. بل انه لم يعد مستبعداً ان تكون الولايات المتحدة قد لعبت دوراً في وصول «الاخوان» الى الحكم من خلال علاقة اميركا القوية مع القيادة العسكرية المصرية التي كانت في الحكم آنذاك. وعلى اي الاحوال فإن تطورات وأحداث الفترة الماضية التي انتهت بخروج «الاخوان المسلمين» من الحكم قد شهدت ارتباكاً أميركياً شديداً أظهر مدى ارتباطها بـ«الاخوان»، كما أظهر مدى اعتماد «الاخوان» على التأييد الاميركي. ويمكننا القول إن الارتباك الاميركي في أمر تحديد سياسة الولايات المتحدة أزاء مصر والقضايا التي ترتبط بها لا يزال مستمراً حتى وإن كان يسير في اتجاه يبدي فيه تفهماً اقوى للوضع المصري.
إن الموقف الاميركي ازاء ما جرى في مصر يدل على ان الولايات المتحدة تحاول ان تبدو أكثر تفهماً للتطورات من وجهة نظر الشعب المصري، وخاصة زعماء الثورة الشبان. لكنها تبدي في الوقت نفسه اهتماماً خاصاً بزعماء «الاخوان» الذين يقبعون في السجون بانتظار المحاكمة او الهاربين من ايدي السلطة العسكرية حتى هذه اللحظة. وربما لا يعدو هذا الاهتمام ان يكون موقفاً تحاول به الولايات المتحدة ان تظهر انها لا تتخلى عن حلفائها في بلد اجنبي بمجرد سقوطهم من السلطة. وعند هذا الحد ينبغي ان لا يغيب عن الأذهان ان هذا الميل الاميركي الى الاهتمام بمصير زعامات «الاخوان» يضع الولايات المتحدة في موقف شديد الحرج في علاقتها بالقوات المسلحة المصرية. انها تعرف بما لا يدع مجالا للشك ان القوات المسلحة المصرية تقوم بدور حاسم للغاية في إبعاد الاخوان، سواء كتنظيم او ككتلة شعبية، عن تشكيل معارضة عنيدة ضد النظام القائم على الحكم الآن في مصر، حتى وإن اعتبر نظاماً مؤقتاً. إن التناقض الرئيسي الذي يبرز في مصر الآن بين القوى السياسية المختلفه يتصدره التناقض بين القوات المسلحة و«الاخوان». ومن الواضح تماما ان «الاخوان» يجاهرون الآن بعدائهم للقوات المسلحة في ما يصدرون من بيانات وما يذيعون من اقوال. وقد كان الصدام الذي وقع بين القوات المسلحة و«الاخوان» في منطقة الحرس الجمهوري اخطر الصدامات بينهما ولا يزال مرشحاً للتكرار ربما بنفس الحدة. ويبدو ان «الاخوان» يبدون تصميماً قوياً على إظهار التعارض بينهم وبين الجيش المصري، بينما تبذل الولايات المتحدة اقصى ما بوسعها لتبدو بعيدة عن احتمال اتخاذ موقف يميل الى اي من هذين الجانبين: «الاخوان» والقوات المسلحة.
ويمكن القول ازاء هذه التناقضات الواضحة، والمبهمة احيانا، ان الولايات المتحدة تبدو مطمئنة الى موقف الجيش المصري تجاه العلاقات معها أكثر مما تبدو مطمئنة الى موقف الحكومة المصرية الجديدة التي تشكلت برئاسة الدكتور حازم الببلاوي، وذلك على الرغم مما هو واضح من ان الجيش المصري يشارك في هذه الحكومة الجديدة مشاركة كبيرة وقوية، ليس فقط من ناحية العدد من الوزراء انما ايضا من ناحية نفوذهم على السياسات المصرية في هذه المرحلة الحرجة. ان الحكومة المصرية تبدو أكثر ارتباطا بتوجهات الشباب المصريين على الرغم من الملاحظات التي يبديها بعض السياسيين والكتاب من ان الحكومة تبدو «أكبر سنا» مما كان متوقعا في ضوء نفوذ الشباب على ظروف تشكيلها. وقد حرصت الحكومة المصرية، في التصريحات الاولى لبعض وزرائها، على ان تطمئن الادارة الاميركية الى «انها لا تنوي إقصاء فصيل يلتزم السلمية». وقد جاء هذا التصريح منسوباً الى وزير الخارجية المصري نبيل فهمي الذي تناول مع نظيره الاميركي جون كيري التطورات الداخلية في مصر وأكد «التزام حكومة مصر بإقامة ديموقراطية حقيقية راسخة بما يضمن مشاركة جميع القوى السياسية بما فيها التيار الاسلامي من دون إقصاء او استبعاد لأي فصيل ما دام هناك التزام بالسلمية».
ومن الواضح ان هذه التصريحات تدل على ان وزير الخارجية المصري يبذل جهداً لطمانة الولايات المتحدة الى ان الحكومة المصرية الجديدة لا تضمر نية ضد «الاخوان». والاحرى ان نقول ان كلمات نبيل فهمي انما تلزم وزير الخارجية الاميركي بالضغط على زعامات «الاخوان» لانتهاج سياسة لا تتناقض بقوة مع سياسة الحكومة المصرية . ولعل هذا اقصى ما تستطيعه الولايات المتحدة مع اصدقائها «الاخوان» في هذه المرحلة الدقيقة. وقد جاءت تصريحات الوزير المصري في وقت ادلى فيه رئيس الاركان الاميركي بأقوال امام الكونغرس طالب فيها بالإبقاء على المساعدات لمصر باعتبارها «استثماراً ناجحاً ومستحقاً».
ولم يكن غريباً بعد هذا ان تقول نشرة «فورين بوليسي» الاميركية ان طريق استعادة الديموقراطية في مصر عقب ثورة «30 يونيو» هو عبر الجيش. وفي هذا الصدد قالت النشرة الاميركية «ان فكرة تدخل الجيش واستعادة الديموقراطية حالة ليست فريدة بل انها جزء من التاريخ». وأضافت إن عزل مرسي «جاء بدعم شعبي غير مسبوق».
فهل يمكن الجزم بعد هذا بأن الإدارة الأميركية استطاعت أن تتجاوز مرحلة التخبط والتردد في رسم سياستها ازاء مصر ما بعد ثورة «25 يناير» وثورة «30 يونيو». هل استطاعت ان تقترب أكثر الى الجيش ام انها بحكم دور الجيش المصري في الحكم لا تزال تعاني من تناقض في سياساتها ومواقفها ازاء ما يجري في مصر؟
الأمر المؤكد أن العلاقة القوية العميقة بين الشعب المصري والجيش كفيلة بأن توقظ الادارة الاميركية على حقيقة ان اضطراب الموقف الاميركي ازاء تطورات مصر لا يمكن ان يجد له علاجاً إلا بقبول التوافق بين الشعب والجيش في مصر. باعتبارهذا علامة ناصعة على ضرورة قبول التغيرات التي ازاحت «الاخوان» عن الحكم.


صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى