العلم خيال.. تنزيل المعرفة من السحابة بمجرد التفكير
العلم خيال.. ليس تحميل المعارف من خادمٍ سحابي (cloud server) مباشرة إلى الدماغ البشري مجرد خيالٍ علمـــيٍ زمانه المستقبل البعيد، مثلما كانت الطائرة التي تخيّلها ليوناردو دافنشي نحو عام 1485م، لتتحقَّق فعلاً عام 1903م.
فنحن بطريقة ما ننزّل المعلومات مباشرة في دماغنا باستخدام العينين والأذنين وجهاز متصل بالإنترنت. والمسألة هنا ليست إتاحة المعارف، بل بأي سرعة يمكننا أن نجدها على الإنترنت من خلال استخدام الأصابع، واستهلاكها بالعينين والأذنين، وهضمها بالدماغ. بعبارة أخرى: إنها مسألة اتساع نطاق التردُّد (bandwidth)، الذي يمكن أن يتوسَّع بتخطّي الوسائط البطيئة التي هي أصابعنا وحواسنا، فنقيم الاتصال المباشر بين دماغنا والكمبيوتر. وهذا ممكن بفضل التكنولوجيا المسمّاة “واجهة الدماغ-الكمبيوتر البينية” (brain-computer interface BCI). فإذا كانت هذه التكنولوجيا قد أصبحت على وشك التحقق، والبعض لا يُعدها خيالاً، فإن تأثيراتها المتوقعة ربما تفوق الخيال.
تعريف بـ”واجهة الدماغ- الكمبيوتر البينية“
حتى نفهم كيف تعمل هذه “الواجهة” نحتاج إلى فهم أدق لكيفية عمل الدماغ المكوّن من شبكة من الخلايا العَصَبية (neurons) متّصلة في ما بينها بواسطة مشابك عصبية (synapses). وتتيح نقاط التواصل هذه نقل جزيئات كيميائيّة بين الخلايا العصبية، معروفة بـ”المُرسِلات العصبيّة” (neurotransmitters). وحين ترسل خلية عصبية ما مُرسِلة عصبيّة إلى خلية أخرى، تنطلق موجة كهربائيّة اسمها “كُمُون عمل” (action potential) من الخلية الأولى إلى الأخرى، وهي موجة يمكن رصدها بواسطة أقطاب تلامس الجمجمة من خارجها، أو من داخلها لتحسين الرصد. ويمكن وصل الأقطاب الكهربائية برُقاقة كمبيوتر، فينشأ بذلك جهاز يمكنه أن يقرأ ويحلل الإشارات من الخلايا العصبية، ويمكن لهذه الإشارات أن تُتَرجَم عندئذ إلى أوامر تتحكم بالأجهزة الخارجية مثل الكمبيوتر، والهواتف الذكيّة، والأطراف الروبوتيّة، والمقاعد المتحرّكة، إلى آخره. ويمكن للأقطاب أيضاً أن ترسل إشارات تحفز رزّات (spikes) في الخلايا العصبية. هكذا يمكن نظرياً تسهيل التنزيل الفوري للمعلومات، بتولي السحابة تحفيز الخلايا العصبية المناسبة في الدماغ.
وتوجَد حالياً صِيَغ أوليّة لـ”واجهة الدماغ- الكمبيوتر البينية”. وهي مستخدَمة لمعالجة مرضى التلف الدماغي والأمراض العصبية، وتُعيد بعضاً من القدرة إلى الدماغ ووظائفه. ويمكنها أيضاً أن تُعيد إلى بعض الأطراف التالفة بعض وظائفها، كالسمع وحتى النظر جزئياً. إلا أن التكنولوجيا المستخدمة الآن في الطب، هي نوعاً ما تكنولوجيا فجّة تُستَخدَم فيها حوالي 10أقطاب كهربائيّة أثخن بكثير من الخلايا العصبية، كما أنها تحتاج إلى عمليات جراحة عصبية صعبة التطبيق. وقد استعملت شركة الصناعي الأمريكي إيلون ماسك الجديدة: “نيورالينك” (Neuralink) التكنولوجيا المتاحة، وطوّرت “واجهة دماغ- كمبيوتر بينية” على شكل رقاقة صغيرة قطرها 8 مم وسماكتها 4 مم وتستخدم 1024 قطباً كهربائياً، تتيح زرعها بأعداد أكبر. ويتصل هذا الجهاز لاسلكياً بهاتف ذكي، أو كمبيوتر، فيتيح لمن يستخدمه أن يتحكّم بالأجهزة الخارجيّة بمجرّد التفكير.
حاجة مستقبلية أساسية
استلهمت “نيورالينك” تقنية من الخيال العلمي اسمها “الرباط العصبي” (Neural Lace). جاء ذكرها في سلسلة كتب “ذي كالتشر” للمؤلِّف الأسكتلندي إيان بانكس. وفكرة “الرباط العصبي” هي استحداث شريحة ثالثة في الدماغ البشري، مصنوعة من عتاد الكمبيوتر، تماماً كما تطوَّرت طبيعياً قشرة الدماغ، ونمت فوق الشرائح الأقدم ظهوراً، أي الجهاز الحوفي. فعند تمكننا من زرع “الرباط العصبي” داخل الدماغ ليصبح جزءاً عضوياً منه، سيجعل ذلك منا هجين بشر- آلة. وقد لا يكون هذا ممكناً في القريب العاجل، لكنه يبدو حاجة مهمة في المدى البعيد.
إن أحد الأسباب الأساسيّة لتطوير الواجهة بين الدماغ والكمبيوتر، هو إمكان نشوء ذكاء عام اصطناعي (artificial general intelligence AGI)، يمكنه أن يشكّل خطراً وجودياً على البشر. هذا الذكاء العام الاصطناعي، الذي هو نوع من ذكاء الآلة، قد يوصَف بأن له وعياً يستطيع أن يتفوّق على البشر في بعض المهام. وحتى لا نصبح على الهامش، بفعل ما فعلت أيدينا، علينا أن نزيد قدرات الذكاء لدينا بتوسيع دماغنا ودمجه بالكمبيوتر. ويقول إيلون ماسك، في تصريح له عام 2018: “إذا لم تستطع التغلُّب عليهم، فانضم إليهم. من الناحية الوجوديّة في المدى البعيد.. غرض “نيورالينك” هو إنشاء مجال تماس واسع بالدماغ مثل الذي يمكن أن نختصره بالذكاء الاصطناعي”.
ماذا يعني ذلك لنا؟
إن كل هذه التكنولوجيا المستقبليّة ستغيّر تماماً مظاهر عديدة من حياتنا اليومية. وإحدى إمكانات “واجهة الكمبيوتر- الدماغ البينية” هي الانغماس الكامل في الواقع الافتراضي. فاجتماعات العمل في المستقبل، ستُعقَد في مكاتب افتراضيّة، ويحضرها أشخاص من كل أنحاء العالم، يتشاركون في الفضاءات الافتراضيّة نفسها، التي ستكون، على قول الفيلسوف الفرنسي جان بودريار وتعبيره الشهير،”أكثر واقعية من الواقع”. ويمكن للتواصل في المستقبل أن يتّخذ شكل تبادل الأفكار، فتصبح معظم الأجهزة النقالة قديمة كما أصبحت آلات الطباعة اليدوية.
أما التعلُّم فسيكون شبيهاً بتنزيل تطبيق ما على الهاتف الذكي، ولكن مباشرة إلى الواجهة البينية. وإذا تعمّمت هذه التكنولوجيا، قد تصبح المدارس والجامعات أشياءً من الماضي. وستتيح الصيغ المقبلة من “واجهة الكمبيوتر- الدماغ” إمكانات مثيرة، لكنها، مثل كثير من مجالات التقدّم التكنولوجي، لن تخلو من التحفّظات المهمّة للغاية.
فالأشخاص الذين يفتقرون إلى هذا التطوّر سيتخلّفون، مع تفوّق من يملكونه بحيث تكون لهم اليد العليا في التعليم والأعمال. وستكون مبدأ “السايبورغ” (Cyborg) [أي اندماج السيبراني بالعضوي] قادرة على مجرّد تنزيل المعرفة والمهارات الضروريّة في الحال. أما الوسائل التقليديّة للتعليم التي يكون فيها على المرء أن ينفق وقتاً لقراءة الكتب، أو الاستماع إلى محاضرات، فلن تكون قادرة على منافسة التعلُّم الفوري.
ومن جهة أخرى، سيكون على طالبي “واجهة الكمبيوتر- الدماغ” أن يغامروا بمشاعرهم الحميمة، وبإنسانيتهم، لقاء ذكاء يفوق مستوى البشر. وسيتيح هذا النوع من التكنولوجيا مسالك جديدة للنشاط الإجرامي من خلال القرصنة. كما سيتيح أيضاً إمكانات أوسع لمراقبة الدول للمواطنين والشركات الخاصة.
وأكثر من هذا، قد تكون ثمَّة عواقب ربما لا نستطيع التكهّن بها، لكن المؤكَّد أن الصيغ المقبلة من “واجهة الكمبيوتر- الدماغ البينية” ستكون ذات أثر اجتماعي أكبر مما جاءت به “الإنترنت”.