العمال الكردستاني يطوي صفحة في تركيا ويفتح أخرى في شمال العراق

قرار حزب العمال الكردستاني سحب مقاتليه من تركيا إلى معاقله في شمال العراق يفتح باب التأويلات حول مستقبل السلاح والسياسة في المعادلة الكردية.
في خطوة قد تعيد خلط أوراق المشهد الكردي والإقليمي، أعلن حزب العمال الكردستاني، المصنَّف تنظيماً إرهابياً من قبل تركيا وعدد من الدول الغربية، بدء انسحاب مقاتليه من الأراضي التركية نحو شمال العراق، في تطور وُصف بأنه تجاوز بعده العسكري ليلامس حسابات سياسية داخلية وإقليمية معقدة.
فمن سفوح جبال قنديل، المعقل التقليدي للحزب قرب مدينة السليمانية، تلا أحد قادته بياناً أكد فيه أن الانسحاب يأتي تطبيقاً لقرارات “المؤتمر العام” الذي عقد في مايو/أيار الماضي، استجابة لتوجيهات زعيم الحزب عبدالله أوجلان، القابع في السجن منذ عام 1999.
وتحدث البيان الذي حضر تلاوته 23 عنصراً قيل إنهم أول مجموعة تغادر تركيا باتجاه العراق، عن “نهاية العمل المسلح” و”حل التنظيم” كهيكل عسكري داخل الأراضي التركية، في سياق بدا أقرب إلى محاولة إنهاء صراعٍ مسلح استمر أكثر من أربعة عقود، خلّف عشرات الآلاف من القتلى، وأثّر بعمق في العلاقة بين الدولة التركية والمكوّن الكردي داخلها.
تحول رمزي أم تغيير استراتيجي؟
ولا يخلو توقيت الإعلان من دلالات، فتركيا، التي تخوض منذ سنوات عمليات عسكرية متواصلة في شمال العراق وسوريا ضد معاقل الحزب، تعتبر هذا الانسحاب “نصراً صامتاً” لسياساتها الأمنية القائمة على الاستهداف الممنهج لبنية الحزب اللوجستية في جبال قنديل ومحيطها.
لكن في المقابل. يرى مراقبون أن ما يجري لا يعبّر عن انهيار كامل للتنظيم بقدر ما هو إعادة تموضع جغرافي وسياسي أيضا. فالحزب الذي فقد الكثير من قدراته القتالية داخل تركيا. يسعى إلى الحفاظ على وجوده من خلال التكيّف مع موازين القوى الجديدة في شمال العراق. حيث تتقاطع مصالح إقليم كردستان مع كل من أنقرة وطهران وواشنطن.
ويشير بعض المحللين إلى أن التوجيهات الأخيرة لعبدالله أوجلان ليست فقط استجابة لضغوط داخلية أو إقليمية، بل هي محاولة لإعادة بناء “الخط السياسي الكردي” من منظور جديد يتجاوز العمل المسلح إلى الفعل المدني والسياسي، بما يتماشى مع تحولات البيئة الإقليمية التي لم تعد تتسامح مع التنظيمات المسلحة خارج إطار الدولة.
ورغم الطابع “السلمي” للبيان. إلا أن انتقال عناصر الحزب إلى شمال العراق يطرح تساؤلات معقدة حول مستقبل وجوده هناك،. فالمناطق الجبلية الممتدة بين دهوك والسليمانية تشكّل منذ عقود العمق الاستراتيجي للتنظيم. لكنها أصبحت في السنوات الأخيرة ساحة ضغط مزدوج من تركيا من جهة، وحكومة إقليم كردستان من جهة أخرى أيضا. فأنقرة، التي كثّفت عملياتها الجوية والبرية في الإقليم تحت شعار “ملاحقة الإرهاب”. تعتبر أن استمرار وجود الحزب قرب حدودها تهديد مباشر لأمنها القومي. فيما يرى الإقليم أن بقاء مقاتلي الحزب يعرقل العلاقات الاقتصادية والسياسية مع تركيا، ويقوّض سلطته على أراضيه أيضا.
وفي المقابل. يتخوّف محللون من أن يشكّل الانسحاب مجرّد تحويل في بوصلة النشاط من الداخل التركي إلى العمق العراقي، ما قد يفتح الباب أمام احتكاكات جديدة بين الحزب والقوات التركية داخل الأراضي العراقية. خصوصاً أن تركيا باتت تمتلك وجوداً عسكرياً واسعاً هناك، بدعم ضمني من حكومة بغداد في بعض الملفات الأمنية.
بين أوجلان والجيل الجديد
ويبدو أن الحزب يعيش اليوم مفترق طرقٍ حقيقياً بين إرث أوجلان التاريخي وتحديات الواقع الميداني والسياسي. فبينما يدفع أوجلان من سجنه باتجاه “السلام والانسحاب”، لا تزال بعض أجنحة الحزب الميدانية تُظهر تحفظاً على إنهاء العمل المسلح كلياً، خوفاً من فقدان الدور أو النفوذ في مناطق الانتشار.
غير أن استمرار الانقسام الداخلي، إلى جانب الضغوط التركية والإقليمية، قد يدفع الحزب إلى التحول نحو كيان سياسي محدود التأثير، أو ربما الذوبان في أطر أوسع من الحركة الكردية الإقليمية، خصوصاً في ظل تصاعد التنسيق بين أنقرة وحكومة أربيل.
وبين التفاؤل التركي بنهاية “الخطر المسلح” والتوجس الكردي من خسارة أحد رموز المقاومة التاريخية. تبقى حقيقة المشهد رهينة تطورات الميدان والسياسة معاً. فالحزب الذي حمل السلاح منذ عام 1984 قد يجد نفسه مضطراً هذه المرة إلى خوض معركة من نوع آخر.معركة البقاء السياسي والفكري في بيئة إقليمية لا ترحم التنظيمات المسلحة.
وإذ يرحل مقاتلو “العمال الكردستاني” من جبال الأناضول نحو قنديل. تبقى الأسئلة مفتوحة حول ما إذا كان هذا الانسحاب إعلاناً لنهاية زمن البندقية. أم مجرد انتقال مؤقت قبل جولة جديدة من الصراع تحت مسميات مختلفة.
قد تكشف السنوات المقبلة إن كانت قنديل ستكون محطة أخيرة في مسار الحزب. أم منطلقاً لصيغة جديدة من “الكفاح السياسي” خارج الحدود التركية، في مشهد كردي يعاد رسمه بخطوط دقيقة بين أنقرة وأربيل وبغداد وطهران.
تحذيرات عراقية
حذّرت لجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب العراقي من “انعكاسات خطيرة” قد تترتب على انسحاب عناصر حزب العمال الكردستاني المصنَّف تنظيماً إرهابياً من قبل تركيا ودول غربية، وانتقالهم إلى داخل الأراضي العراقية بعد إعلان الحزب إنهاء وجوده المسلح في تركيا.
وقال عضو اللجنة مختار الموسوي. إن تحرك مقاتلي الحزب نحو شمال العراق “يمثل تحدياً مباشراً للأمن القومي العراقي. كما ويهدد بإقحام البلاد في دوامة الصراعات الإقليمية المعقدة”. مضيفاً أن “العراق ليس ساحة بديلة لتصفية الحسابات بين أنقرة والتنظيم. ولا يمكن أن يتحمّل أعباء نزاع دام أكثر من أربعة عقود”.
وأشار الموسوي. إلى أن الانسحاب كان ينبغي أن يتم في اتجاهات أخرى “بعيداً عن الحدود العراقية”. موضحاً أن “دولاً مثل سوريا أو إيران أو حتى أفغانستان وباكستان لن تقبل بتمركز عناصر الحزب داخل أراضيها. وهو ما جعل شمال العراق الوجهة الوحيدة المتاحة”.
وأكد البرلماني العراقي. أن اللجنة ستوجه استفساراً رسمياً إلى حكومة محمد شياع السوداني. “لمعرفة ما إذا كانت السلطات العراقية على علم مسبق بهذا التحرك. وما إذا تمّ تنسيق أو موافقة رسمية عليه أيضا. إضافة إلى الخطوات المنتظرة لمنع أي تداعيات محتملة على الأمن الداخلي”.
العلاقات التركية – العراقية أمام اختبار جديد
ويبدو أن التطورات الأخيرة تضع العلاقات التركية – العراقية أمام اختبار جديد. إذ قد تجد بغداد نفسها مضطرة إلى الموازنة بين تعاونها الأمني مع أنقرة ومخاوفها من انتهاك السيادة في الشمال. فبينما تصر تركيا على ملاحقة عناصر الحزب داخل الأراضي العراقية ضمن ما تسميه “حق الدفاع المشروع”، تتحفظ الحكومة العراقية على توسيع العمليات العسكرية التركية دون تنسيق مسبق.
وفي المقابل، يجد إقليم كردستان نفسه في موقع لا يقل حساسية، إذ يتعين عليه إدارة توازن دقيق بين علاقاته مع أنقرة من جهة، ووجود الحزب في مناطق جبلية وعرة من جهة أخرى.
وفي ظل غياب رؤية إقليمية واضحة لمعالجة ملف حزب العمال الكردستاني. يتوقع أن يستمر هذا الملف كأحد أكثر الملفات تعقيداً في معادلة الأمن الإقليمي. ما يجعل انسحاب الحزب من تركيا بداية مرحلة جديدة لا تقل غموضاً عن سابقتها.
ميدل إيست أونلاين



