العمر الزمنيّ لـ”دولة” الاحتلال الإسرائيلي
العمر الزمنيّ لـ”دولة” الاحتلال الإسرائيلي .. تكمن أهميّة أحداث فلسطين اليوم، سواء نوعيّة إنجازات المقاومة العسكرية أو حجم الهبّة الفلسطينية وامتدادها على مساحة خريطة فلسطين، في وضعها في سياقها التاريخي في إطار الصراع مع العدوّ من جهة. والديناميكيات الداخليّة لمشروع “دولة” الاحتلال الصّهيونيّ من جهة أخرى.
يغيب عن المواطن العربيّ النظر في تاريخ الصراع من منظور العدو و”شعبه”، فالسردية المهيمنة في الذاكرة العربية هي سردية “هزائم” مفترضة في الستينيات، وتفوق عسكري حتمي للمشروع الصهيوني و”نجاحه” وتقدّمه. ومن أحد أهم أسباب رواج هذه السردية، عدم فهم العدو ومشروعه، وبالتالي التسليم بتصورات مختلقة ومزيّفة عنه.
لنفهم المشروع الصّهيونيّ
من المهمّ فهم المشروع الصهيوني كامتدادٍ وشكلٍ من أشكال الاستعمار الغربي لدول الجنوب، إلا أنَّ هذا المشروع يحمل خصوصيات ومميزات تجعله مختلفاً عن باقي المشاريع الاستعمارية. إذ إنَّ المشروع الاستعماري الصهيوني ليس لشعب/ أمة أوروبية كوَّنت ذاتها وهُويتها القومية. وامتلكت فائضاً للقوة تمظهر على شكل تمدّد استعماري، كالهولنديين في إندونيسيا والكاريبي، والفرنسيين في الجزائر وجنوب الصحراء، والإنجليز في الهند وأفريقيا.، فالصهاينة هم جماعة متخيّلة/ “أمة” تم اصطناعها بشكل مركزي، بل من المباح القول إنَّ محاولة صناعة شعب وهندسته بهذه الطريقة لم تتم تاريخياً على امتداد التاريخ البشري، من استحداث اللغة العبرية الحديثة المستخدمة، إلى السردية التاريخية الأسطورية الممتدة إلى آلاف السنين، إلى مكونات هذا “الشعب” العرقية والقومية، فالمشروع الاستعماري الصهيوني هو مشروع إقامة شعب مصطنع على أرض مسروقة.
من هذا المنطلق، علينا أن نعي صيرورة عمل هذه “الأمة” ونظرتها إلى نفسها واختلافاتها الداخلية. وإذا ما حاولنا تقسيم تاريخ هذا المشروع، سنجد 3 حقبات رئيسية:
من التأسيس إلى هزيمة 67
يتمثل ذلك في شتات الأوروبيين اليهود (لنحاول النظر إلى المشروع كمجتمع أبيض منبوذ بفعل العنصرية الأوروبية، وليس كديانة يهودية) من روسيا وشرق أوروبا وغربها، وصولاً إلى منهاتن والولايات المتحدة، وجمعهم، بدعم من بريطانيا (ولنتذكّر أن وعد “بلفور” سبق المجازر النازية)، في فلسطين كمهاجرين مقاتلين. وقد كان العديد منهم ينتمي إلى “الفيلق اليهودي” في الجيش البريطاني.
هذا الشّتات جُمع حول فكرة وإيديولوجيا، هي الصهيونية، أي أننا “شعب” عشنا شتاتاً منذ آلاف السنين. واليوم، سنقف ضد التاريخ، وسنصنع المستحيل، لنبني دولتنا. من ناحية إيديولوجية، تشكل هذه الحقبة أوج عمل الفكرة الصهيونية وعنفوانها، ومن الممكن تخيل – هناك أيضاً مشاهد مصورة – حشود المستوطنين وهم يستمعون إلى نشيد “هَتِكْڤاه”، بمعنى الأمل، بالأنغام الروسية، ويرقصون ويبكون متأثّرين. من هذه المظلّة، من الممكن فهم صلابة العقيدة القتالية للجيل الأول من المستعمرين الصّهاينة.
رغم ذلك، وحتى هزيمة العام 67، كان العديد من يهود أوروبا يشكّون في نجاح الفكرة الصّهيونيّة، ومن دون مبالغة، على أساس أنَّ هؤلاء اليهود الذاهبين إلى أرض فلسطين ليستعمروها ويصنعوا “وطناً قومياً لليهود” مجانين، ولن ينجحوا أمام السيل جارف من العرب. وعليه، أعطت هزيمة العام 67، وحتى في أعداد الهجرات إلى أرض فلسطين، زخماً كبيراً.
من “العصر الذهبي” إلى 25 أيار/مايو
يتوازى العصر الذهبي لقوّة مشروع “الدولة” عسكرياً مع انهيار المشروع العربيّ بعد الخيانة الساداتيّة تحديداً. ويقصد بإطلاق لفظ “العصر الذهبي” التفوّق العسكريّ و”السّياحة” العسكريّة لـ”جيش” العدو في أراضينا، وصولاً إلى بيروت.
هذا العصر وهذه القوة ينخران في الوقت نفسه في العقيدة القتالية والعنفوان الإيديولوجي الصهيوني، فكما أسلفنا، تعتاش هذه الإيديولوجيا على سردية المظلومية والقتال ضد الأقوى، رغم الصّعاب (هذا بحدّ ذاته أسطورة، فالعدوّ، عديداً وعتاداً، وحتى ضدّ الجيوش العربيّة، بالجمع لا المفرد، كان أقوى عبر الدعم الاستعماري).
ولكن العدو، بين نهاية السبعينيات والعام 2000، كان يعيش أوج قوته، وكان يعمل ناجحاً على تصفية الثورة الفلسطينية، سواء مادياً عبر الاغتيالات أو معنوياً عبر تمكين ترهلها الفكري والعقائدي، من خلال الدعم المالي لريوع النفط الخليجي.
صاروخ “عياش”: الشيخوخة الاستعمارية
بشكل ما، من الممكن تتبع ترهل قوة العدو من خلال تتبّع تسميات عملياته العسكرية، بدءاً من “عملية الليطاني” في العام 1978، ليصل إلى مشارف النهر بسهولة نسبية، إلى اجتياح العام 1982، تحت مسمى “السلام للجليل”، وصولاً إلى “تصفية الحساب” في العام 1993، ومن ثم “عناقيد الغضب” في العام 1996.
الإشارات الأكثر وضوحاً تبدو بارزةً في حروبه على قطاع غزة، من تهجّمه وعنجهيّته تحت اسم “الرّصاص المصبوب” في العام 2009، إلى “عمود السماء” في العام 2012، مروراً بـ”الجرف الصامد”، وصولاً إلى اليوم “حارس الأسوار”. من الممكن هنا ملاحظة الانحدار والميل السّلبي إلى الغطرسة نحو التخندق الدفاعي والآمال المسقوفة للعمليات.
هذا الانحدار يتماشى مع انحدارٍ في إيديولوجيا هذه “الدولة”، فهي ليست نابعة من مواد أولية متجذّرة وحيوية تنطلق من أسباب تاريخيّة ذاتية، كأي مجتمع بشري آخر تحوّل من جماعة سياسية إلى قومية بإطار إيديولوجي يوحده، كالعروبة مثلاً.
وبشكل فهمه منظرو هذا الكيان، ومنهم بن غوريون، فإن دوام هذه الإيديولوجيا يعتمد على دوام مؤسسات تحفظها وتغذّيها، ويقصد هنا “الجيش” في ما يسميه “نفي الشتات”، أي إبقاء صلة ما تربط هذا الجمع البشريّ القادم من شتات الأرض على اختلافات أفراده اللغوية والإثنية.
وعليه، يكون أيّ ترهّل في هذه البنى ترهلاً لهذه الإيديولوجيا وزوالها، وانتفاؤها يقتضي انتفاء هذه الفكرة. ولو أخذنا العروبة، مثلاً، في هذا السياق، فهي فكرة تعتاش في العراء، ولا مؤسّسات دولة تحتويها، إلا أنها حاضرة في وجداننا كشعب عربي، لسياقات مجتمعية ذاتية تسمعها في اليمن، وفي نداءات المناضلات الصحراويات، وصولاً إلى استغاثات المصلين عبر منابر المسجد الأقصى.
بالعودة إلى ذبول الإيديولوجيا الصهيونية، فإنه يتمظهر في التناقضات الداخلية للمعسكر العلماني، وليد العصر الذهبي في الثمانينيات، داخل “المجتمع” الصهيوني، وهو الذي تربى على “ترف” مكتسبات مجازر أجداده وسفك دمائنا، وسيطر عليه نمط الاستهلاك الغربي مع مشاريع التحرر الاقتصادي الصهيوني. هؤلاء لا طاقة لهم على القتال، بل تراهم يجنحون إلى “الليبرالية الصهيونية” كخيار يائس للهروب من سيف المقاومة، ويبدو أنهم منهكون من صمود شعبنا العربي الفلسطيني ونضالاته. وهناك المعسكر اليميني الآخر بروابطه الدينية، والّذي يزداد يمينيّة بعتوّه وعنجهيّته مع استشعاره أكثر بالأزمة الوجوديّة، على الرغم من ترهّله.
من هنا، وعند التّفكير في مستقبل الكيان، وفي حين سيعود العديد من الصهاينة إلى أوروبا مع انتفاء أمنهم، وخصوصاً أن أغلبهم يحمل جنسيات غربية، سيبقى البعض الآخر ويخوض المعركة، وهم بقية رواسب الفكرة الصهيونية، ولعلّ علينا شكرهم، فهم لن يحرمونا من معركة نحتاجها، ليس لغرض الثأر بقدر إيجاد ذواتنا كشعب مستعْمَر تحرّر بدمه وبندقيّته لا منةً من أحد.
كلّ ذلك التناقض يعود إلى فعلنا كعرب؛ الفعل المقاوم، فإن كانت هناك “مدة صلاحية للفكر الصهيوني” لأسباب ذاتية. فسببها يعود إلى الفعل المقاوم العربي، من الأسرى، إلى حجارة الأطفال، إلى دماء الشهداء، إلى دخان الصواريخ، وهو ما يصلنا إلى اليوم. فأوج العمل المقاوم التاريخي لأحداث اليوم مهم جداً من ناحية أثره في مجتمع المستوطنين، إلا أنّ المهم جداً (وأكرر جداً) أن لا نغرق في حماسة اللحظة، فمجتمع العدوّ ومؤسّساته تدرس هذه التجربة وتعتبر منها. والأهم هو أنّ الأميركيين، وفي سياق مصالحهم في بقاء هذا الكيان، سيخلقون مسبّبات جديدة لإزاحة التركيز العربي عن قضيّتنا في فلسطين وإشغالنا في صراعات جانبية في ما بيننا، فكم هو سهل الوقوف مع فلسطين عندما تكون رائجة في شاشات التلفزة ووسائل التواصل وحسابات المشاهير! وكم يبدو صعباً أن تقف معها وهي يتيمة!