العودة إلى 1258 ق .م لفهم الصراع على سوريا (نسيم الخوري)

 
 نسيم الخوري
 
ترتفع النبرة لا النوايا في الحوار، لكأنّ الطاولة السورية ستدور طويلاً في الأذهان قبل أن يصقل خشبها . لماذا؟ لأنّ ملفات العرب والمسلمين والشرق الأوسط وتقاسم المصالح الدولية الحافلة بالجبال لا بالنتوءات، تنتظر طاولة ما، ولأن طبيعة ما يحصل في سوريا وطبيعة السوريين، أعادني 3271 سنة إلى الوراء . ومن يتمعّن اليوم مثلي، في الوثائق المعلّقة في المقرّ الدائم للأمم المتّحدة، ولو على ضوء شمعةٍ تحملها فلسطين وحيدة في يوم ذكرى نكبتها ال،65 يعثر على أمرين سوريين يحملان دلالات كبرى منسيّة لا بدّ من الإشارة إليهما، لفهم المسافة بين الحلول والوقائع، ولو أنّ موسكو تبادر، وفي جيبها أسماء مفاوضين، لعقد مؤتمر دولي بشأن مستقبل هذا البلد:

1- الأمر الأوّل هو صورة طبق الأصل مرفوعة لمعاهدة اسمها “قادش” معلقة في هذا المقر، منذ تأثيثه، كأول معاهدة سلام رسمية مكتوبة وموثقة في تاريخ البشرية . هي وثيقة سورية قديمة، قد لا يلتفت بان كي مون أو أحد إليها، تمّ توقيعها في العام 1258 قبل الميلاد أي قبل 3271 سنة من اليوم . ويدور العالم السياسي والدبلوماسي المعاصر، منذ عامين، وفي تجاذب وانقسام، حول العتبة السورية مثل أحجار المطاحن، بحثاً عن طاولة دولية لوقف نزف الدم السوري الذي وصل إلى المحيط، مصحوباً بكلام واسعٍ عن تفكّكٍ قد يتوسّع منذراً دول المنطقة . مفارقات المنطق في مقتضيات الحروب والسلام!
تقع مدينة قادش في التاريخ القديم على الضفة الغربية لنهر العاصي بين لبنان وسوريا جنوب بحيرة حمص بخمسة وعشرين كلم . تم نقش المعاهدة أساساً على لوح من الفضة، ونجد نسخاً منها من الطين معروضةً ومحفوظةً في متحف الآثار في اسطنبول في تركيا، كما نجد نسخاً أخرى في متاحف مصر على أوراق البردي . شهدت هذه المدينة آخر المعارك في سلسلة من الحروب الاستنزافية الإعيائية بين الفراعنة والحثيين، وبعد حروب أعيت الزمان واندثر عبرها ملوك وشعوب وحضارات . ووقّع الوثيقة رمسيس الثاني ملك مصر  ومواتلّي الثاني ملك الحثيين في العام 1274 ق .م، بعد معارك لم تترك أمامهما سوى الصلح لكنه الغامض، حيث انتهت المذابح الطويلة من دون نصر حاسم لأي من الطرفين . فشل رمسيس الثاني في كسر دفاعات قادش، ونجح الحثيون بابقائها تحت سيطرتهم وانتهت المعركة باحتفاظ كل من الطرفين بنفس مكاسبه السابقة . عاد رمسيس معلناً انتصاره في المعركة، وقام بنقش تفاصيلها بالكامل بالهيروغليفية على جدران معبد الرامسيوم وكذلك معبد الأقصر في جنوبي مصر حالياً، ومعبد أبو سمبل حيث يحتفظ بأنشودة معركة قادش . وأعلن الملك مواتلّي بأن المعركة كانت انتصارا له . وقام رمسيس، بعد ذلك، بعدة حملات إلى آسيا ما اضطر الحثيين في النهاية إلى التراجع تاركين أكبر جزء من سوريا من دون حماية كافية . وبموت مواتلّي تولي ابنه خاتوشيلي الحكم، فانتهز رمسيس هذه الفرصة وتقدم نحو ممالك الحثيين واستولى عليها . وهنا برزت قوة الآشوريين في الظهور وتهديد مناطق النفوذ المصرية والحثية على السواء، ما حدا بالطرفين إلى توقيع معاهدة سلام بينهما سجلت بالخطين الحثي والهيروغليفي على لوحين من الفضة .

 

2- الأمر الثاني اللافت هو غصنا الزيتون اللذان يحوطان الكرة الأرضية في أعلام وصور الأمم المتّحدة، ويحتلان الزوايا العليا من وثائقها ورسائلها وتعاميمها وأزرارها المرفوعة فوق ياقات ممثليها وموظفيها وعرباتها ومبانيها في العالم . وهذان الغصنان جاءا بناءً على اقتراح مندوب سوريا فارس الخوري اللبناني الأصل الذي ارتقى سلّم المناصب حتّى شارك في مؤتمر سان فرانسيسكو في 25 أكتوبر/تشرين الأوّل 1945 لوضع نظام خاص لمجلس الأمن بناءً على قرار من الأمم المتحدة، جاء اقتراحه استلهاماً لطفولته الكفيرية (والكفير هي أبعد قرية في الجنوب اللبناني على الحدود السورية اللبنانية، مشهورة ببساتين الزيتون)، ودمغاً للسلام بين الشعوب . ويذكر في أوراقه أمامي أنّه قبل توقيعه على الوثيقة، قال بالعربية والإنجليزية عبارةً للخليفة أبي بكر الصدّيق: “سيكون قويّكم ضعيفاً عندي حتى آخذ الحق منه، ويكون ضعيفكم قويّاً حتّى آخذ الحق له” .
ليس جديداً أو غريباً، إذاً، أن تكون هناك طاولة مستديرة للحوار، ترتسم في الذهن الدولي بشأن سوريا، قبل أن يباشر بصقل خشبها واختيار مكانها وزمان الكشف عنها أو عن المتحلّقين حولها أو عن أوراقها ومشاريعها . هذا أمر طبيعي ومنتظر ومألوف، وبه تنتهي غالباً مجمل الحروب والصراعات التي تأخذ صفات متعددة مثل انتصار فريق وانكسار آخر أو إعياء الفريقين أو الأفرقاء المتصارعين للخروج المضني في نصوص دائرية مبهمة توافقية لا يظهر فيها الغالب أو المغلوب . ولكن عندما تصبح نقطة من العالم مثل سوريا بقعة تجاذب عالمية معقّدة، ومعضلة كبرى يعاد من فوق عتبتها إعادة رسم الخرائط والمصالح والصراعات الباردة المتجددة بكلّ أشكالها ومراميها وهي تنذر بما يفوق التصور لمن فيها ومن حولها، فإنّ طاولةً من هذا النوع ستبقى تدور طويلاً في الأذهان والتصريحات الدبلوماسية . لماذا؟ لأنّ كلّ صراع من هذا النوع، ينتظر الاتّفاق المسبق فيه، كما تعلّمنا العلوم السياسية والدبلوماسية، على اللغز أي لغز المفاوضات المقنّع والمقنع أو ما يعرف بأسرار المفاوضات والحوار قبل المتحاورين . وغالباً ما يكون السرّ البارز، بصرف النظر عن المفاجآت في الشروط والشروط المضادة كما بعيداً عن الصفقات الدولية والإقليمية التي تعقد وستعقد من حولها، هو سرّ تأمين الزهو في الهزيمة وعدمه في الانتصار، أي تغطية الحقائق المرّة بعدم إظهار التنازلات أو الإخفاقات أو التراجعات المتبادلة لدى الأطراف المتقاتلة كما لدى الأطراف الخارجية، كي لا يتجدّد الدم .
ولو سحبنا معادلة أبي بكر بحثاً عمّن يشارك في سوريا أو وثيقة قادش أو خضرة غصني الزيتون حول الكرة، لرفعت الأغطية عن كثافة الازدواجية في حضور الدول الكبرى بما يطمس القوة بالضعف والحق بالقوة والقانون الدولي بالمصالح الدولية، إلى انقسامات هائلة وحروب وتضحيات تتراكم تحقيقاً للمصالح الدولية والإقليمية، أخطرها الإطلالة “الإسرائيلية” من موسكو أو العسكرية المباشرة، بحثاً عن دور بعد تدفق وازدياد نفوذ القوى المتطرفة المنخرطة في الرسم عينه .

صحيفة الخليج الإماراتية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى