الغاز الروسي والضغوط الأميركية على أوروبا

 

  في مؤتمر ميونيخ للأمن الذي عقد الشهر الماضي في ألمانيا، قال الرئيس الأميركي جو بايدن: “إن أميركا عادت. وإن التحالف عبر الأطلسي عاد.” لكن هذه العودة التي أبرزت مخالبها بوضوح حيال الصين وروسيا، بدأت تتوضح الآن أيضا حيال الحليف الأوروبي، حيث تشي التصريحات والتصرفات  البايدنية الأولى بشيء من التعالي على الأوروبيين ، وكثير من الضغوط خصوصا على ألمانيا للإبتعاد عن الغاز الروسي وهو حيوي بالنسبة لها ولأوروبا.

أطلق وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن  في  قمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) في بروكسيل قبل أيام  تصريحات قاربت الإملاءات حيال الأوروبيين معترضا بشكل خاص على مشروع “نورد ستريم 2” الذي ينقل الغاز الروسي إلى أوروبا عبر ألمانيا.

ثمة ثلاثة أسباب رئيسة في هذه الضغوط الأميركية المغلفة بقفازات دبلوماسية حيال تغذية أوروبا بالغاز الروسي:

  • جيو-اقتصادي، فبعدما تمّ تشييد نورد ستريم 2 ،  بنسبة 95% من المرتقب استكماله بشكل نهائي في شهر أيلول/سبتمبر المقبل، ليبلغ مراحله النهائية. وقد سبق للولايات المتحدة أن اتخذت، قبل نحو عامين، قرارًا بالانضمام إلى الأربعة الكبار في سوق الغاز المسال إلى جانب روسيا وقطر وأستراليا.
  • جيو-سياسي، والذريعة أن إعتماد ألمانيا على ما نسبته 90% من غازها الطبيعي على الإمدادات الروسية سيضعها في دائرة التأثير وربما التلاعب أو الابتزاز على طول الخط اذا جاز التعبير.
  • جيو-استراتيجي، ذلك أن بلينكن يرى في استغناء الألمان عن الغاز الروسي الأرخص كلفةً، والاستعاضة عنه بالغاز الأميركي، مبادرة حسن نية لتعزيز الشراكة الأطلسية والحفاظ على المصالح الإستراتيجية المشتركة من خلال عضوية حلف شمال الأطلسي “الناتو”.

التشبث الأميركي ذهب أبعد من ذلك في ظل تلميح بلينكن وتلويحه بتطبيق قانون أميركي على الشركات التي تتعامل وتستثمر في مشروع نورد ستريم2 وهذا ما يعيد إلى الأوروبيين تلك الصورة النمطية لما كان يفعله دونالد ترامب طيلة فترة حكمه.

اذا كانت المصالح الاقتصادية الأميركية وكذلك التنافس السياسي العالمي، يدفعان دبلوماسيتها للتحرك لحشد أكبر تحالف أوروبي وعالمي ضد الصعود الهائل للصين وتوسع المجال السياسي والأمني لروسيا، فقد بات من مصلحة الأوروبيين تحديث الترسانة

العسكرية  لتوفير شيء من استقلال القرار  ، وهو ما كان قاله سابقا الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون وما تعهّدت به  المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل لجهة  بناء جيش أوروبي قويّ، لا بل لعل هذا أيضا ما دفع بريطانيا لرفع مستوى ترسانتها النووية رغم تبعيتها المستمرة للقرار الأميركي منذ عقود طويلة.

الواقع أنه منذ  نجاح ترامب في الانتخابات عام 2016، قرّر الأوروبيون التوصل إلى إتفاق جديد عُرف بأسم  اتفاقية الدفاع الدائم (Permanent Defense Agreement) وخصصوا لها مبلغ 5,5 مليارات يورو سنويًا لبلورة منظومة دفاعية أوروبية بمعزل عن الاعتماد على المنظومة التكنولوجية الأميركية، وكذلك للخروج من كنف حلف شمال الأطلسي. لأن هناك تحوّلاً مفصليًا في ما كان يعرف بالتحالف أو الشراكة التقليدية عبر الأطلسي.

هناك مجموعة مصالحة تربط أميركا بأوروبا، أبرزها حاليا التصدي للتمدد الصيني-الروسي، والعودة الى الاتفاق النووي بشروط جديدة تمنع خصوصا الصواريخ الباليستية، وذلك رغم تحفظات أوروبا على مبالغة بادين في وصف الرئيس الروسي ب ” القاتل ” ، كما أن اوروبا غالبا ما تعارض أو تنتقد

سياسة العقوبات الأميركية، التي تدفع الخصوم من روسيا الى إيران نحو أحضان الصين  .

لا شك أن عودة بادين الى الساحة الدولية تحمل طموحات كبيرة، لكن ربما عليه التفكير بدبلوماسية أخرى تناسب عصرنا الحالي ويقبل بأن عهد الأحادية القطبية انتهى وان عليه التعامل مع الصين وروسيا واوروبا وغيرها من موقع الند أو الصديق، لا التابع أو العدو.

خمس نجوم

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى