‘الغرفة وضواحيها’ بحجم مآسي العراق
يتعرف القارئ إلى سمات هاتين الشخصيتين بالسرد والحوار؛ فـ”هام” محامٍ زجّت به جهة أمنية ــ يوم عرسه ــ في غرفة مغلقة، قرأ على جدرانها أسماء من سبقوه إليها، وما سطّروه من عذابات. وحين خرج من السجن، أنشأ موقعاً إلكترونياً، أطلق عليه اسم “الأبجدية”؛ ليروي فيه عذابات أولئك المجهولين. لكن الجهة التي حبسته، أرسلت بعض أزلامها إلى داره، فحطّموا أشياءه بما في ذلك جهاز الكمبيوتر الذي دوّن عليه حكايات السجناء، ناسين أن الذاكرة أهم شريط يحتفظ بالمعلومات. يقول:” كنت جاهزاً للكلام مع الله عن أسماء الضحايا التي رأيتها على الجدران، غير أنني لم أعرف ماذا أقول لمن يعرف كل شيء” (ص 135). وهدّدته تلك الجهة الأمنية، ما جعله يخاف على “أحبته”؛ فاضطر إلى مغادرة العراق. إلا أنه يعود بعد سنوات، ويرى ما يحصل في ساحة التحرير من اعتصامات؛ وما يدور فيها؛ لذا، يختطفه مجهولون يزجون به في بيت مهجور تركه أصحابه منذ مدة، في حي يخلو من السكان، بسبب (كورونا)؛ ولا غرابة في أن يكون البيت، والحي الذي نزل فيه هذه المرة مهجورين؛ لأن الناس فقدت الحماس، وبالتالي فقدت الحياة، تقول الرواية: “عندما لا يوجد الحماس لأي شيء، فلا يوجد أحد”(ص 132). على أن (هام) سبق وأن خُطف قبل أعوام في الأحداث الطائفية التي سادت في فترة ما، من أجل الفدية. ومن المفارقة، أن أحد خاطفية توسّط في إطلاق سراحه بعد أن تعرّف إليه، حيث كان الخاطف حمّالاً في السوق، وكان “هام” وابن عمه يعاملانه بلطف وإحسان، فأراد أن يردّ الجميل لهما، وقد فعل. وفي هذا إشارة إلى انقلاب أحوال البلاد والعباد. تنضاف إليه احالة الفوضى التي عمّت آنذاك.
أما “زمن”، فقد عادت إلى دارها المهجورة منذ ثلاث سنوات؛ حيث كانت تعيش مع خالتها “كاشان”، وابنتها “أوليا”، بعد أن وصلت أخبار تفيد بأن حياتهن في خطر، وعليهن الاختباء؛ فنصحتها خالتها بالعودة إلى الدار، والاختباء فيها؛ فهي المكان الوحيد الذي لن يخطر ببال أحد. كان الخطريتربص بهن؛ بسبب الشك في اتصالات لهن مع جهات خارجية. وهي تهمة بعيدة كل البُعد عن الحقيقة، فقد كانت الخالة تعمل مع لجان حقوق الإنسان وحسب، ولم يكن لها اتصال بأي جهات أجنبية. أما “زمن”، فكانت تعد برنامجاً إذاعياً تقدّمه “أوليا”؛ يحكي عن هموم الناس ومشاكلهم . وما دامت “الكلمة” سلاحاً خطيراً؛ فهي تجر على صاحبها المتاعب، وقد تكلفه حياته. مثلها ـ في ذلك ــ مثل “هام” الذي كانت “أبجديته” سبباً في تهديد حياته. وقد نوّهت الكاتبة إلى خطورة الكلمة على صاحبها وعلى الآخرين، وذلك حين ذكرت لنا “لعبة الكلمات”، التي كانت تلعبها “زمن” مع ابنة خالتها؛ حيث تفكرإحداهما بكلمة في سرّها، وعلى الأخرىأن تخمّن حروف الكلمة، وكلما خمّنت حرفاً خاطئاً، رسمتالأولى مشنقة يتدلى منها “رجل”، تكتمل أجزاؤه كلما وقعت في خطأ.يُرسم حبل المشنقة، ثم تُرسم أجزاء الرجل تباعاً: الرأس، ثم الأطراف، ثم…. وهكذا إلى أن تنتهي اللعبة إما: بمعرفة الكلمة، أو بشنق صاحب الحظ التعيس الذي وقع بين اللاعبين. وفي هذا إشارة، بل دلالة على أن الحروف والكلمات تقود أحياناً إلى التهلكة. تقول الرواية:” إنه يتأرجح بين الوجود والعدم.. لا يأكل ولا يشرب، لا يمشي ولا يتحرك،…. وإذا لعبنا اللعبة من مكاني ومكانها، فقد تكون الحروف سبباَ في شنقه، أو إنقاذه من الشنق، خلال دقائق معدودة.. خطيرة هي الحروف التي يمكن أن تحييه، أو تميته” (ص 60).
يدور بين بطلي الرواية، حديث عبر الجدار، في أثناء تواجدهما هناك؛ ما يجعلنا نتعرف إلى “زمن”، التي انتقل أهلها إلى هذه الدار المكونة من: بيتأرضي، وشقتين متلاصقتين، استؤجرت إحداهما عبر وكيل؛ لحاجة في نفس المستأجر. وقد سيق “هام” إليها، حيث حُبس، أوتُرك فيهابلا ماء، ولا طعام إلى أن يموت.. وقد تعمّد خاطفوه اختيار هذا المكان؛إمعاناً في تعذيبه؛ حيث أنها الدار نفسها، التي كان يعتزم السكنفيها، لو اكتملت فرحته، وتزوج قبل سنوات.تخبره “زمن” عن انتقالها وأهلها إلى هذه الدار، بعد أن احترقت دارهم القديمة، ومات أخوها الثاني “يوسف” في يوم عيد؛ ما جعل العائلة تهرب من ذكرياتها إلى هذه الدار، علّها تساعدهم على النسيان.تحكي له “زمن” عن أخيها الأكبر “يوسف”، الذي استشهد في الحرب العراقية الإيرانية ثلاث مرات؛استلم الأهل جثته ــفي المرة الأولى ــ دون رأس. وبعد فترة، استلموا جثة يوسف الحقيقية برأسه هذه المرة. أما ميتته الثالثة؛فكانت عندما انتهت تلك الحرب، التي أخذت من عمر العراقيين سنوات عديدة، دون أي جدوى، أو طائل منها، تاركة لهم الفقد، والموت، والدمار. تقول زمن: “عندما انتهت الحرب، فرح جميع الناس إلا أمه وأباه” (ص 164).
لا تكتفي الرواية بذكر حكاية يوسف أخو “زمن”، بل تحكي لنا قصة آخرين يحملون الاسم نفسه: “يوسف” ابن خالتها الذي هرب من العراق، وبعد محاولات عديدة فاشلة، تمكن ــ أخيراًــ من الوصول إلى غايته، بعد أن تحوّل إلى “نرجس”؛ليعيش في ألمانيا. ناهيك عن “يوسف” آخر،مات في الحرب أو الأحداث؛ وهو ابن الأسير الذي سنعرفه لاحقا.وقد اختارت ميسلون هادي اسم “يوسف” لكل من مات، أو ضاع في العراق؛ لتبين مأساة ــ يوسف العراقي ــ الذي تخلّى عنه إخوته، وتركوه في غياهب الجب. تقول الرواية: ” استمري يا زمن واحكي لي عن يوسف آخر، فكلنا هذا اليوسف العالق في البئر”(ص 238). فاسم العلم كما يقول شتراوس؛ هو استعارة للشخص. ويُمثِّل أحد الدوال؛ لِما يحمله من إيحاءات غنية كما يقول رولان بارت.
استطاعت ميسلون هادي في “الغرفة وضواحيها”، أن تقدّم لنا صورة صادقة عمّا دار، ويدور في العراق، وما مرّ ويمرّ به العراقيون بسبب تلك الحروب، وآثارها، والمآسي التي تركتها، فأصبحت حياة العراقيين لا تُقاس بالزمن، وإنما بالأحداث وأثرها على المواطن. تقول الرواية: ” الماضي لم يعد حاضراً بالدقائق والساعات وأجزاء الزمن، إنما بالذكريات الأليمة أو السعيدة” (ص 211). وعلى الرغم من أن أحداث الرواية تدورفي غرفة، في شقة، إلا أن ضواحي هذه الغرفة امتدت إلى مساحة واسعة، شملت العراق بأكمله، وامتدت إلى خارج حدود الوطن. تقول البطلة:” نحن نعيش في العراق؟ وقد تحدث فيه أشياء أغرب من الخيال…. يعني أن لا حيلة لنا حتى في اختيار المكان الذي نفر إليه من هذه الدنيا” (ص 93).
اختار “هام” المواجهة، فدفع سعادته ثمناً لها، وأصبحت حياته مهددة. أما “زمن”؛فقد اختارت أن تعيش احتمالات في خيالها، علّ ذلك يساعدها في التأقلم مع الواقع، ويمكّنها من احتماله، وبالرغم من هذا، لم تسلم هي الأخرى من تهديد؛ فالعراقي ما يزال متأرجحاً بين الحياة والموت، منغمساً في هموم ومآسٍ كثيرة. ويبدو أن الطريق مايزال طويلاً أمامه، وهذا ما تقوله البطلة :” هل يكون من الطبيعي، وأنت في ريعان الشباب، أن تنتظر نهايات الأيام بدلا من بداياتها؟ فما كان الهم يخلص، حتى يأتي بعده هم آخر لا يخلص، نريدها تخلص وما تخلص.. ما تخلص.. ماتخلص” (ص 176).