الغريب الذي نسي ظله .. غياب يجدد حضوره

 

مجموعةُ الشَّاعرِ أوس حسن “الغريبُ الذي نَسِي ظلَهُ” واحدةٌ من المجموعات التي اشتغلتْ على بنيةِ الحضور والغياب، فقد تكونتْ من ثمانِي عشرة قصيدة، استهلت بقصيدةِ “أسئلة من رماد”، وهي قصيدةُ أسئلةٍ منذ مستهلها حتى خاتمتِها. وقوامُ هذه الاسئلةِ يقومُ على الحضورِ والغيابِ، بوصفهما فعلا حياتيًّا، قد يحدث فيها، ولكنَّهما ليسا متضادين، كما يتجلَّى ذلك في المعنى الذي تحيلُ عليه المُعجماتُ العربيّةُ، وهو ينحصرُ بالتناقضِ والتضاد.

تتعاونُ الاسئلةُ فيما بينها لتكوِّن بنيّة القصيدة كلها، فهي تبتدأ بـ “لماذا تركت الغريب وحيدا خائفا”؟ وتتوالى الأسئلة لتدور حول فكرةِ “الخفاءِ والتجلِّي” أو “الحضور والغياب”، فترك الغريب خائفًا، محوٌّ، وسرقةُ الغيمِ محوُّ، والموت محوٌّ، وسرقةُ الحكمةِ محوٌّ لذاكرةٍ شعريةٍ مكتنزة بالحكمة: لماذا تركت الغريب.. وحيدًا خائفا / يتسكعُ في أزقة الموتِ الباردة / وسرقتَ الغيم من ذاكرته الحبلى بالمطر. ولعل قوله: “وكأن مهنتك صناعة الغياب” تكشفُ بنيةَ هذه القصيدة القائمة على فكرةِ الغِياب، قبالة حضورات مجازية، شفيفة تلوح منها غيابات كثيرة؛ فالمضي خلف الذكريات محو وتلاشٍ، وضياع الغريب الذي تتدافعُ به الأزقة لتوصله إلى عتبات الموت، اختفاء وغياب.

وتمثل هذا المنحى قصيدة “السيِّدة التي صارت موسيقى للبحر”، فقد حضرت الأفعال: “بكت، وانطفأت، و(أرى) المنفية بـ لم، والفعل الماضي (بحث) المسند إلى تاء الفاعل، وتكسرت، وتصدع”، لخلق حالة الغياب،؛ إذ تؤدي دلالتها المعجمية والمجازية إلى الانتهاء والمحو، حتى ألفت البنيةَ اللغويةَ للنص كلّه؛ إذ شفعها بأفعال أخرى أكدت حالةَ الغيابِ الطويل الذي دفعه إلى التحليقِ عاليًّا نحو فضاءات الخلاص، فضلًا عن تتابع (لا النافية) جعلت الغيابَ حقيقةً والحضورَ بعيدَ المنالِ.

يشكل العنوان بنية الحضور في “أجراس الزمن البارد”؛ فالأجراس انتظار لحظة البداية، ونعت الزمن بالبارد، تشي بالانتهاء والموت، ثم يأتي استهلال القصيدة؛ ليؤكد ذلك الحضور المنغمس في الغياب، فتكرار عبارات “آنَ الأوانُ” دليل على نكوص الأمل والانغماس في

الغياب.

ويكرّس المتن للحضور المجازي، حضور الذات أمام غياب الآخر ونكوصه، وقد خلق حالة من التوازن بينهما: على حافةِ الغروبِ / ومع أولِ شهقةٍ / وآخر ضحكةِ للطيورِ المهاجرةِ / أذكرُ أنَّهما التقيا أوَّل مرةٍ.

فعل التذكر – هنا – حضور، لكل ما يحدث بينهما، إذ يقتسمان المقطع، ويشتركان في كل التفاصيل الصغيرة التي أثثت البنية العامة للنص. فيما تظهر خاتمة النص الإعلان عن الغياب، والتواري خلف الستار نهائيا.

ومن المفيد ذكره أنَّ هذا الافتراقَ بين الثنائيتين، والاندماجَ بينهما هو السَّمةُ الطاغيةُ على عمومِ قصائد الديوان. ويمكنُ التمثُّلَ عليه بقصائد (أغنية من جليد)، و(قمر أخضر). والطريف أن خاتمتيهما تتشابهان على صعيد الصورة، واستجلاب الصوت، إذ أنَّ كليهما تنفتحان على أفق التفاؤل في الأولى، وتتراجعان في الأخرى نحو الماضي المغيَّب:

تمثل العودة إلى الطفولة نوعًا من الهرب من الواقع والارتماء بأحضان الغياب، ولعلَّ قصيدتي (قطار النشيد)، و(المتهم بصمته) اللتين أقامهما على بنية الحوار نوعٌ من الغيابِ او التغييبِ الذي يؤدي إلى الغياب التام؛ ذلك أنَّ تنامي القصيدة يتمُّ ويستحكم عبر “خط درامي يكشف عن عناصر الغياب. وتوحي قراءة قصيدة (مراسيم الموت الأخير) بأَن العنوانَ يحدد بنية القصيدة الغياب، ويسيطرُ على متنِ النَّصِ عَبْرَ مجموعةٍ من الألفاظ والتراكيب، فضلًا عمّا يبثُ المتن من دلالاتٍ تتفاوتُ فيها حضورات الغياب وغيابات الحضور: في نهاية الدرب الطويل / الشجرة المضيئة بملح الأرض ولون الدم / هي وحدها من ستروي غدًا أساطيرك للعابرين.

أمَّا قصيدةُ “ناقوس الغابة المظلمة” ذات النهاية المثقلة بالمأساوية فتشي بحالة الغياب التي تتملك الغريب، ولا يتخلص من قبضة الزمن الممتد في عمق السنين، أو الزمن العابر للماضي والمشرئب نحو المستقبل: تحاصرني الأصواتُ من كلِّ الجهاتِ/ لا حلمَ هنا يلمعُ بالذكرى/ لا قنديلَ هنا يلمعُ بالحياة.

تأخذ بنيةُ الغيابِ شكلًا آخرَ، حينَ يتعرضُ لحالاتِ غيابٍ متعددةٍ؛ إذ تغدو القصيدةُ كلُّها مثالًا على هذه البنيةِ التي أصابتْ الجسدَ العراقيَّ كلَّه، بحيثُ أفقدتْ الوطنَ شكلَّهُ ولونَهُ. وإلى جانبِ هذا يغدو النسيانُ أو تفريغُ الذاكرة نوعًا من أنواعِ الغَيابِ القَسريِّ بإزاء معجمِ النسيان الذي اجتاحَ الحياةَ برمتِها.

يتسعُ معجمُ الشاعرِ ليحمّل المفردات دلالاتٍ جديدةٍ، تخرجُ من معجميتها لتتحول إلى جزء من بنية الغياب التي هيمنت على هذه المجموعة، من ذلك قصيدة (عبث) فهي لونٌ من ألوانِ الإمساك بطرفِ الحياةِ، والقِرَانِ بكلِّ ما هو جميل فيها، لكن التَفلّتَ من قبضته يستحيل إلى عتبة من عتبات الغياب.

 

 

ميدل إيست أون لاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى