الغلاء في مصر: أزمة أم انحياز؟
لا يُمثّل الغلاء الذي تشهده مصر حالياً مجرد أزمة ارتفاع في الأسعار فوق المعدل المعتاد يمكن التكيف معها مع الوقت، لكنه أصبح أزمة حقيقية لدى قطاعات واسعة من السكان لم تعد مداخيلهم كافية لتلبية احتياجاتهم.
ويبدو حجم الأزمة أوضح بالنظر للأرقام الرسمية للدولة. فوفق «الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء»، وصلت نسبة التضخم في حزيران الماضي إلى 14.8 في المئة، قياساً للفترة ذاتها في السنة السابقة. الرقمُ كبيرٌ بالفعل، ولكن تأثيره الحقيقي لا يظهر إلا بوضع رقم آخر إلى جانبه، وهو نسبة الزيادة في بند الأجور في الموازنة العامة للدولة للعام المالي 2016 ـ 2017 والتي اعتمدت مؤخراً، وزاد بها بند الأجور بنسبة 4.5 في المئة فقط.
هذا يعني أن القطاع الأكبر من العاملين بأجر، وهم العاملون في الدولة، الذين يتجاوز عددهم ستة ملايين موظف، وهم أيضاً القطاع الأكثر استقراراً، سوف ترتفع أجورهم بنسبة أقصاها 4.5 في المئة، إذا روعيت العدالة في توزيع الزيادة في الأجور، ومع إهمال الوظائف الجديدة في القطاع. هذا يعني ببساطة انخفاض الأجر الحقيقي للقطاع الأكبر من العاملين بأجر بنسبة حوالي 10.3 في المئة. هذا القطاع لن يكون الأسوأ حظاً إذا ما قورن بالعاملين في القطاع الخاص، والذين يخضعون لقوانين عمل أكثر إجحافاً، ويخضعون أكثر لتقلبات السوق.
نسبة التضخم المعلنة من الجهاز المركزي لا تُعّبر عن كل الأزمة. فبحسب الرسم البياني الذي أورده موقع «أصوات مصرية» التابع لمؤسسة «طومسون رويترز»، يتفاوت معدل التضخم المرتفع أصلاً بين مجموعات السلع والخدمات المختلفة. فمجموعة الطعام والشراب وصل معدل التضخم فيها إلى 18.4 في المئة. ووصل التضخم في أسعار الرعاية الصحية إلى 23.2. وهذان البندان يلتهمان النسبة الأكبر من دخول الأسر الفقيرة والمتوسطة، أي أن توزيع التضخم أيضاً يفاقم من أزمة الغلاء في السلع والخدمات التي تحتاجها الأسر الفقيرة والمتوسطة.
لا شك أن أرقام التضخم المعلنة، وغير المعلنة أيضاً، تُعبّر عن أزمة اقتصادية عميقة لا ينفيها أحد.
وربما تكون بيانات الاقتصاد المصري دليلاً كافياً على عمق تلك الأزمة. فقد وصل عجز الموازنة العامة للدولة للسنة الماضية نسبة 11.5 في المئة، واقتربت نسبة الدين العام للناتج المحلي الإجمالي من 100 في المئة، ومعدل النمو الاقتصادي أقل من أربعة في المئة. أما سعر الصرف فيمثل أزمة بذاته، فقد تراجع سعر الجنيه المصري أمام الدولار بشكل متتالٍ من أقل من ستة جنيهات عام 2011 للدولار، ليصل سعره الرسمي حالياً الى 8.83 جنيه للدولار، بينما يقترب في السوق غير الرسمية من 12 جنيها، مع انكماش كبير في حجم احتياطي النقد الأجنبي من حوالي 36 مليار دولار عام 2011 إلى حوالي 17 مليارا حالياً. يصاحب ذلك تراجعٌ كبير في موارد العملة الصعبة، سواء بسبب انهيار السياحة، بسبب الأوضاع السياسية والأمنية عموماً، وخاصة عقب حادث الطائرة الروسية خريف 2015، وتراجع عائدات قناة السويس نتيجة تباطؤ التجارة العالمية، وتراجع تحويلات المصريين في الخارج خاصة في دول الخليج، نتيجة انهيار أسعار النفط، وتراجع قيمة الصادرات.
ملامح الأزمة تبدو واضحةً بالفعل، وتأثيراتها لا يمكن تفاديها. وببعض الإنصاف، سيصعب تحميل الحكومة أو النظام الحاليين مسؤولية تلك الأزمة التي ساهم العديد من العوامل الداخلية والإقليمية والدولية لإنتاجها.
ولكن الأزمة الاقتصادية ليست هي المحرك الوحيد لمؤشر التضخم والغلاء، فطريقة إدارة الأزمة تنتج تأثيراً قد يفوق الأزمة ذاتها. وإذا كان النظام والحكومة لا يتحملان مسؤولية إنتاج الأزمة، إلا أن الانحيازات الاجتماعية والطبقية التي تدار بها الأزمة هي مسؤولية أكيدة للحكم في مصر، كما أن تلك الانحيازات في واقع الأمر قد تنتج أثراً على الطبقات الفقيرة في مصر يفوق أثر الأزمة نفسه.
وسواء في وقت الأزمة أو الرخاء، فإن الدولة تمتلك أدوات لإدارة الاقتصاد بحيث تضمن درجة من توزع الدخل والثروة في المجتمع، أو حتى درجة من توزيع آثار الأزمة على الطبقات الاجتماعية بحسب قدرات كل طبقة. وإذا نظرنا للطريقة التي تستخدم بها تلك الأدوات، لوجدنا أن تأثيرها على الفقراء أسوأ بالفعل من الأزمة ذاتها.
ولعل أبرز تلك الأدوات هي الضرائب، والتي تهدف اقتصادياً إلى تحميل الطبقات الغنية أعباء اجتماعية لصالح الطبقات الأقل دخلاً. وفي مصر إذ تتجه الدولة لزيادة حصيلة الضرائب لسد العجز في الموازنة، فإنها لا تقوم بذلك بالطريقة التي تراعي بها إعادة توزيع الدخل. ففي الوقت الذي خفضت فيه الحد الأقصى للضرائب على الدخل من 25 في المئة إلى 22.5 في المئة، وألغت ضريبة الثروة التي كانت تقررت في العام المالي السابق، ولم تطبق أصلاً، كما استجابت لضغوط مستثمري البورصة وألغت ضرائب كانت مقررة على تعاملات البورصة، فإنها اتجهت لرفع الضرائب غير المباشرة سواء الجمارك أو الضرائب على الاستهلاك، تحت اسم «ضريبة القيمة المضافة»، والتي تبلغ نسبتها 14 في المئة من قيمة السلعة أو الخدمة والتي ستؤدي عند تطبيقها قريباً إلى موجة تضخم جديدة، نتيجة تحميل قيمة الضريبة على المنتج النهائي أي على المستهلك.
هنا لا تبدو الضرائب آلية لتوزيع آثار الأزمة الاقتصادية على الطبقات بحسب قدرتها على التحمل، ولكنها تعد طريقة للجباية لا يدفع فيها كل مواطن حسب دخله وقدرته، ولكن يدفع بحسب قدرته على ممارسة نفوذه وضغطه على الدولة، فتكون الجباية من حظ الطبقات الأفقر التي لا تمتلك نفوذاً وأدوات ضغط، بينما تحصل الطبقات القادرة على إعفاءات وامتيازات يعاد تحميلها على الفقراء مجدداً.
الأداة الثانية التي تمتلكها الدولة في إدارة الأزمة وتوزيع آثارها هي الدعم. وبدلاً من أن تستخدم الدولة الدعم لتخفيف آثار الأزمة على البسطاء، أقدمت على تخفيضات قاسية فيه.
وكان للوقود والطاقة الحصة الأكبر في خفض الدعم. فعلى مدى ثلاث موازنات متتالية، خفضت الدولة الدعم الموجه للطاقة من أكثر من مئة مليار جنيه إلى حوالي 30 مليارا فقط، أي أكثر من الثلثين، ما انعكس مباشرة في موجة غلاء لكافة الخدمات والسلع، ناهيك عن رفع أسعار الخدمات والمرافق التي تقدمها الدولة نفسها مثل الكهرباء والمياه وغاز المنازل، بحيث تضاعفت قيمة فواتير استهلاك بعض الخدمات، في الوقت ذاته الذي تقدم فيه الدولة تيسيرات وامتيازات جديدة للمستثمرين.
ويضاف إلى الأداتين الرئيسيتين للدولة، قدرتها على التحكم في الأجور، سواء أجور الذين يعملوا لدى الدولة، والذين يمكنها رفعها لمواجهة الغلاء، أو الذين يعملون لدى القطاع الخاص، والذين يمكن للدولة أن تعالج تشريعات عملهم بما يضمن توفير حد أدنى للأجور يتناسب مع مستوى الأسعار، وزيادات دورية تواكب نسب التضخم، وهو ما لا تقوم به الدولة سواء للعاملين لديها كما أوضحنا، أو للعاملين لدى القطاع الخاص، والذين لا توفر لهم الدولة تشريعاً يضمن حتى استقرارهم في العمل. على العكس تخضع لضغوط رجال الأعمال في تحرير عقود العمل من الالتزامات.
هناك أزمة اقتصادية لا يمكن إنكارها، وهناك آثار لتلك الأزمة على المجتمع ككل لا يمكن تفاديها. ولكن هنالك أيضا انحيازا واضحا في طريقة إدارة الأزمة يجعل الطبقات الفقيرة والمتوسطة تتحمل النصيب الأكبر من الأزمة.
صحيفة السفير اللبنانية