الفتوى في المجال العام: سياسة توظيف الدِّين (وسام فؤاد)


وسام فؤاد*

  

من أهم الأدوار المعاصرة للفتوى، نجد دورَها المستخدم تباعاً في التعبئة السياسية. والتعبئة السياسية تعني تحويل الجماهير من مجرد حشودٍ إلى جماعاتٍ صاحبة موقف داعم، لقرارٍ سياسي يتخذه طرفٌ من أطراف العملية السياسية. ويميل بعضُ الخبراء لاعتبار التعبئة أحد الأدوار الفرعية لوظيفة الفتوى، كأداة من أدوات الهندسة الاجتماعية. فالهندسة الاجتماعية تعني قيام الفتوى بدور في بناء الرأي العام على مستوى قومي، فيدفع المشروع السياسي القومي في دولة من الدول قدماً. وهذا الاتجاه لا ينفي وجود اتجاهٍ عملي آخر يتعلق بتوظيف الفتوى في التعبئة على المستوى التعددي في الصراع. فمن المهم ألا ننسى أن بناء التحالفات الفصائلية الجماهيرية، قد شهدت توظيفاً ملحوظاً من جانب التيار الإسلامي للفتوى، على مستوى تجنيد الأعضاء، أو كسب تعاطف الجماهير معها، أو لتعبئة الجماهير خلف أحد خياراتها.
في هذا الإطار يمكن التعرف إلى خلفية فتوى رئيس رابطة علماء المسلمين في قطاع غزة، الدكتور مروان أبو راس، التي تكفر من "يستحل" الاعتراف بـ"إسرائيل" وتخرجه عن الإسلام، وذلك في إطار ظاهرة الفلتان الأمني، والصراع بين حماس وفتح الذي شهده قطاع غزة منذ بواكير 2006 وحتى توقيت صدور الفتوى. ومن القبيل نفسه فتوى الدكتور يوسف القرضاوي بتحريم المحاكمات العسكرية، وهي تلك الفتوى التي تستهدف تعبئة الجماهير ضد سياسة المحاكمات العسكرية التي ينتهجها النظام المصري في مواجهة الفصيل الإسلامي الأبرز في مصر: الإخوان المسلمون.
في الإطار نفسه أيضاً يمكن فهم تلك الفتاوى التي شهدتها الجزائر، وماتزال تشهدُها، والتي تحرم المشاركة في الانتخابات، ويمكن فهم هذه الفتاوى في ضوء الصراع العلماني السلفي الذي تشهده الجزائر، وحتى في ضوء الصراع بين حركة مجتمع السلم: حركة مجتمع السلم (حمس) وبين (جبهة الإنقاذ الجزائرية)، برغم إجراءات المصالحة التي قام بها الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة. ويمكن إطلاق الحكم نفسه على كتب الدكتور سفر بن عبد الرحمن الحولي حول التيارات السياسية القومية والليبرالية بالمملكة السعودية، التي يمكن فهمُها في إطارٍ ما استقر في العرف السياسي السعودي، من دعم الحركة الوهابية للدولة السعودية في مواجهة خصومها السياسيين، وإن كان هذا لا يعني دخول الدكتور الحوالي طرفاً في هذه العلاقة، لكن تعزيز هذه النوعية من الاجتهادات العقدية هو سياسة حكومية سعودية مستقرة.
فتاوى الحسم السياسي
هذا النوع من الفتاوى يرتبط بوظيفة تخطييء طرفٍ سياسي، في لحظةٍ تاريخيةٍ حرجةٍ. وهو ما يؤدي لحسم الظرف السياسي لصالح الطرف، أو الأطراف الأخرى، التي لا تلتبس بموضوع الفتوى. وتختلف هذه الوظيفة الإفتائية عن وظيفة تحريك الشرعية، في أن وظيفة تحريك الشرعية ترتبط برسم صورةٍ ذهنيةٍ مستمرةٍ، تجعل الطرف المتلبس بسلوك موضوع الفتوى إما حائز للشرعية أو فاقد لها، أما فتوى الحسم فإنها تأتي في لحظاتٍ تاريخيةٍ لتحول أطراف اللعبة السياسية إلى رابحٍ أو خاسرٍ.
في هذا الإطار، يمكن التعرف إلى خلفية فتوى رئيس رابطة علماء المسلمين في قطاع غزة، الدكتور مروان أبو راس التي تكفر من "يستحل" الاعتراف بـ"إسرائيل" وتخرجه عن الإسلام، وذلك في إطار استعداد المنطقة لاستقبال مؤتمر أنابوليس، الذي كانت تنوي الإدارة الأمريكية من خلاله الحصول على تعهداتٍ من السلطة الفلسطينية بوقف العنف، وتسليم سلاح المقاومة في مقابل رفع الحصار. وقبيل شهور، اثناء الاستعداد للانتخابات بالكويت صدرت فتوى منسوبة لعميد كلية الشريعة، الدكتور محمد الطباطبائي بجامعة الكويت مفادها: أن من حق ولي الأمر توجيه صوت البنت أو الزوجة أو الأخت للمرشح الذي يريد، وأن عليها الطاعة.
لا شك في أن مثل هذه الفتوى سوف تخلق حالةً من تجييش أصوات النساء، خلف المرشحين ذوي الخلفية المحافظة، غير أن الدكتور الطباطبائي تبرأ منها. وفي الإطار الوظيفي نفسه أيضاً نجد فتوى الدكتور يوسف القرضاوي، التي يفتي فيها بتحريم تزوير الانتخابات. وجاء ذلك قبيل انتخابات مجلس الشعب المصرية في 2005، وأعاد الشيخ نشرها لاحقاً بسبب الخلاف الحمسوي الجبهوي قبيل انتخابات بلدية الجزائر. ومن ذلك أن جناحاً من حزب الإصلاح أصدر فتوى دينية، تحرم أخذ صور للنساء في لجان مراجعة وتعديل جداول الناخبين، وتعتبر ذلك من الأمور المخالفة للشرع حسب زعمهم. وكان الهدف من هذه الفتوى تعطيل شريحة من الناخبين عن التوجه للانتخابات التي كان التجمع اليمني للإصلاح قد دعا سابقاً إلى مقاطعتها.
فتاوى تمرير السياسات
تستخدم الفتوى أيضاً على الصعيد الداخلي، وفي إطار صراع عميق لتمرير قرارات وقوانين حكومية تتعلق بعموم المجتمع، وربما لا توافق مصالح الأغلبية، أو تعكس مصالح نخبة ضيقة. وأمثلة ذلك كثيرةٌ في عالمنا العربي.
نجد تلك الفتوى التي دعم بها شيخ الأزهر الدكتور محمد سيد طنطاوي تجاه الإدارة المصرية لسجن الصحافيين، وذلك بإفتائه بتحريم شراء الصحف التي تنشر الشائعات، وكذلك إفتاؤه بجلد الصحافيين "الكاذبين" على حسب وصفه بـ80 جلدة، مشيراً ضمناً إلى أزمة حرية الصحافة، والتي تشتعل في هذه الآونة بين السلطات في مصر والصحافيين، والتي اتهم فيها أربعة رؤساء تحرير لصحف معارضة ومستقلة متهمين بإشاعة أخبار كاذبة عن مرض الرئيس المصري.
وبصرف النظر عن موقفنا من القضية التالية، يجب النظر لتوظيف الفتوى، حيث أعلنت السفيرة مشيرة خطاب الأمين العام للمجلس القومي للأمومة والطفولة، أن شيخ الأزهر الدكتور محمد سيد طنطاوي قد وافق على تجريم الختان، ضمن رده على تساؤلات للمجلس بشأن الموقف الشرعي من بعض التعديلات على قانون الطفل يسعى المجلس لإقرارها، ومن شأنها أن تؤدي إلى توقيع عقوبة مناسبة على "ممارسة ختان الإناث"، ومن يمارس "العنف الأسري" و"الإيذاء البدني ضد الأطفال".
أصدرت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية الكويتية فتوى تحيل إلى أمير البلاد أمر حسم الخلاف الدائر حول منح المرأة حقوقها السياسية. وأشارت الوزارة في فتواها إلى أنها وجدت أن هناك ثلاثة آراء مختلفة في هذه المسألة: الأول يحرم المرأة من الترشح، أو الانتخاب. والثاني يؤيد حقها السياسي بالكامل. أما الثالث فيؤيد حق التصويت فقط دون الترشح. وأكد بيان الهيئة أنه بالنظر إلى أننا إزاء مسألة خلافية في الإسلام؛ فإن القاعدة الفقهية في هذه الأحوال أن يحسم الحاكم الموضوع.
وفي إطار رغبة الحكومة المصرية، في تمرير قانون زراعة الأعضاء، أفتى مجمع البحوث الإسلامية الأمر في ختام مؤتمره السنوي لعام 2009 بعد إعلانه صراحة أن موت جذع المخ، أو موت الدماغ، أو ما يسمى بالموت الإكلينيكي موتٌ حقيقي، مع إباحة الحصول على أعضاء جسده ونقلها لإنسان مريض، بشرط موافقته قبل وفاته، أو والديه أو أحدهما، أو وليه الشرعي. أكد المشاركون في الاجتماع جواز تبرع الإنسان البالغ العاقل، غير المكره بجزء من أجزاء جسده، بلا فرق في ذلك بين التبرع للأقارب أو غيرهم، شريطة أن يكون على سبيل الهبة دون أي مقابلٍ مادي، وألا يكون العضو المنقول عضواً أساسيا للحياة، أو يعطل وظيفة أساسية في حياته، وألا يكون العضو حاملاً للصفات الوراثية، ولا من العورات المغلظة، وألا يعود بهذا التبرع أي ضررٍ على المتبرع، وأن يغلب على الظن منفعة المنقول إليه العضو، وألا توجد وسيلة أخرى تغني عن نقل الأعضاء.

*خلاصة بحث وسام فؤاد المؤسسة لدينية والفتوى'، ضمن الكتاب 30 (حزيران 2009) 'المؤسسات الدينية' الصادر عن مركز المسبار للدراسات والبحوث- دبي

ميدل ايست أونلاين

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى