«الفدرلة» في سوريا لا تنسحب على لبنان

من المفترض أن تعيش الحكومة اللبنانية إلى زمن مجهول. لا أحد يتوقع بديلاً عنها. هي باقية إلى يوم انتخاب رئيس جمهورية. يوم إلا الانتخاب هذا لم يكتمل موعده… وكل هذا ليس جديداً. هذه الحكومة، منذ ولادتها، وُجدت لتبقى، حارسة للفراغ المديد.

ليس طبيعياً أن تُحاسب الحكومة على ما ترتكبه، أو، على ما لا تنجزه. نالت ثقة المجلس منذ عامين، وهي ثقة عددية بلا رصيد سياسي. الوزراء، تمت لملمتهم من الشتات الطائفي ـ الحزبي. حظ الوزراء لا ينضب. مقيمون في السلطة، ونعيم السلطة وافر مادياً وحضوراً، من دون مساءلة من ضمير أو محاسبة من أحد. هم غير معصومين، ومطوَّبين في إقامتهم الوزارية.

ليس منطقياً أن تطالَب الحكومة بأن تحكم. الحكم، مقيم خارج الحكومة. مفاتيح السياسة ليست مع تمام سلام ولا مع من أُوكلت إليهم مهمة تمثيل المرجعيات الطائفية السياسية، برتبة وزير موظف لا أكثر. تمام سلام، صندوق بريد. يدخل الجلسة ليتبلغ الرسائل. وهي من النوع الابتزازي. يشعر سلام، أنه رئيس مجلس إدارة بلا صلاحيات. الشركاء أقوى منه. ما هو متاح له، أن يشكو، ثم أن يتباكى، وهو العليم، أنه جيء به، لهذه المهمة تحديداً، فممنوع على سلام أن يكون حاكماً، وممنوع على الحكومة أن تحكم.

ليس مرجّحاً أن تتحسن الأحوال أبداً. دولة بلا موازنة؟ هذا بات تقليداً. أكثر راحة أن تنفق بلا قيود. والمال السائب، يعلم الناس الحرام. والسائب كثير وأبناء الحرام أكثر، من كل الجهات والفئات. يمكن التأكد من هذه النتائج من خلال النظر فقط. إذ، «من أين لهم كل هذا الذي ليس لهم في الأساس»… دولة بلا مجلس نواب؟ هذا العرف يناسب النواب. لا انتخابات ولا محاسبة. لم نسمع من نائب مستقل أو كتلة حرزانة، صوتاً حقيقياً، (وليس جعجعة) ولم نلمس موقفاً جدياً من عملية التمديد للمجلس، وللتعطيل المستدام… الكل شركاء في تعرية المجلس وتشريع عجزه.

لا أحد ينتظر تحسناً ما في إعادة الحياة الدنيا إلى المؤسسات، في التخفيف من حدة تراكم الدين العام، في تحسين أداء الكهرباء، في تنظيف لبنان من التلوث، في الحفاظ على ما تبقى من صحة اللبنانيين، في تفعيل القضاء اللبناني لمحاسبة البعض على الأقل، في الاستماع إلى شكاوى البعض، إلخ.. يُنتظر أن تسوء الحالة أكثر.

لعل هذا هو المطلوب من بعض القوى السياسية، صاحبة اليد الطولى في التعطيل، وصاحبة الصوت الأعلى في اتهام الخصوم به. ربما: ليت لا. لكن الشواهد كثيرة. والمعادلة باتت متداولة: إما المشاركة بشروط التوافق كما نفهمها حصراً، وإما الذهاب إلى لبنان آخر، يكون فيه كل فريق سيد نفسه ومنطقته وطائفته. ومثل هذا المنطق يقود إلى تنفيذ شعار الإصلاح والتغيير بطريقة جذرية. فإذا كان الإصلاح مستحيلاً، فليكن التغيير…

على هذا رست المساجلات اللبنانية في الأيام الأخيرة. خفتت مشكلة العلاقات اللبنانية ـ السعودية وخفت حدّة النقاش فيها. اتهام «المقاومة الإسلامية» في لبنان بالإرهاب، أحدث سجالاً ولم يبدِّد خطراً على لبنان واللبنانيين. تراجعت حظوظ الانتخابات الرئاسية. الاختراقان اللذان حصلا دخلا في موت سريري سياسياً. فلا عون ولا فرنجية في طريقهما إلى بعبدا. الأبواب ما تزال مقفلة والنيات معطلة. عون يرفض أن يكون «التوافق» اللبناني عليه. يريد «توافقاً» على شخصه وبعض خياراته. يضاف إلى ذلك، الحديث الدائم عن التقصير والمقاطعة وهلم جراً من حكايات ألف ليلة وليلة السياسية الباهتة.

المنتظر، وربما المؤكد، أن يتفاقم الوضع السياسي والمالي والصحي والتربوي والمعيشي والبيئي اللبناني، المؤكد أن لا تتحسن أحوال الحكومة وأن تصاب بسوء متواصل. الحضيض ليس نهاية المطاف. هناك قعر لا قعر بعده. يصبح المطلب فيه، تغيير لبنان، لا إصلاحه… النبرة المذهبية والطائفية. بين السنة والشيعة أمكن ضبطها عبر جلسات الحوار، حسناً. إنها تفسر هدوء جبهات المواجهة في الشارع والمناطق. نجاة لبنان من الآثار السورية قد حصل. تقليص مخاطر الهجوم السعودي والغزو الترهيبي قد حصل كذلك. أما التصعيد المسيحي ـ الإسلامي، فهو يستعر بعنوان غير عنفي، بل بعنوان القدرة على التعطيل وليس بعنوان القدرة على الإقناع.

إن رفع شعار الفدرلة واللامركزية، بما هي أبعد من الإدارة، لا يمكن أن تمر. واهم من يظن أن إقفال طريق بعبدا، وإغلاق مجلس النواب، وتعطيل أعمال مجلس الوزراء، ستفضي إلى طلاق ودي، يصير فيه كل زعيم طائفي، أميراً على إمارته، من دون أن يكون لديه بئر نفطية يغذي منها كيانه المذهبي.

يعوَّل في هذه المرحلة على العجز. ليس في قدرة أحد على قلب الطاولة. موازين القوى تختلف عن موازين القول. أكثرية «قادة الطوائف» و «المحاور السياسية»، مدركة لمصالحها عن جد، وتعرف أنها، مهما فعلت وتنطّحت وطمحت، محكومة بالعجز…

حروب لبنان السابقة، جدَّدت لبنان وفق الأطر الطائفية، التي فرضتها الميادين القتالية. «اتفاق الطائف»، هو ابن شرعي للحرب اللبنانية. التفلّت من هذا الاتفاق، إذا لم ينفذ بحذافيره، أو السعي إلى اتفاق آخر، أو نقض هذا الاتفاق، يتطلب حرباً أو حروباً، وهذه ليست من اختصاص أي من الفرقاء، مهما كان الصياح مرتفعاً.

قليل من التواضع كي يبقى لبنان مطوباً، بانتظار «غودو» ما، على أن يأتي قبل أن يقفل المسرح اللبناني أبوابه، ويتنازل عن خشبة خلاصه، بالحد من الطموحات والتخفيف من التوقعات والاقتصار على الأحلام فقط. الفدرلة في سوريا، إذا حصلت، ستكون بنت السنوات المديدة من الحرب الكارثية. ثم إن الفدرلة في سوريا ليست معدية للبنان. سوريا شيء ولبنان شيء آخر.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى