الفريضة الغائبة في آليات الاستبداد الشرقي
تبدو السلطة في غالب الدول والمجتمعات والعصور غاوية وفاتنة ولذائذية لمن استطاعوا الوصول إليها، وفي عيون وإدراكات من يرومون وصالها! ولكن السلطة فتنة وتحمل في أعطافها العديد من الأمراض السياسية والنفسية، غالبا ما تنطوي النفس السلطوية الأمارة بالسوء على بواعث الانحراف بها عن مسارات الشرعية وضوابطها، وقواعد دولة القانون على اختلافها، ولا سيما في مجتمعات «السلطنة الشرقية»، حيث الافتقار إلى التقاليد المؤسسية، وغياب معنى الدولة ورأسمالها الخبراتي لدى «بعض» من يصلون إلى سدة الحكم، ويعتقدون أنهم هم الدولة -على نمط لويس السادس عشر- «أنا الدولة والدولة هي أنا!»، ومن ثم يختصرون الدولة في ذواتهم المصونة والمحصنة ضد النقد أو العزل أو المساءلة القانونية عن بعض قراراتهم السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو انحرافهم بالسلطة كما يعرفها القانون الحديث والمعاصر.
هذا النمط من اختزال الدولة والنظام السياسي الحديث في نمط سلطاني في الحكم حيث لا قواعد ولا روادع ولا انصياع لحكم القانون في إطار الفصل بين السلطات يحوّل «الحكم الشرقي السلطاني» إلى حكم شبه مطلق ومن ثم تغدو السلطة المطلقة أو «أشباهها» مفسدة مطلقة، وفق مقولة لورد أكتون ذائعة الصيت (النخبة والثورة.. الدولة والإسلام السياسي والقومية والليبرالية، نبيل عبدالفتاح، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2013 ، ص 369).
أطلق المستشرق الإيطالي الشهير مقولة مفادها أن الإسلام ليس بالحركة الدينية؛ إذ ليس فيه ما يتصل بالدين غير واجهته. أما جوهره فسياسي واقتصادي محض.
وقد جسدت الحركات الراديكالية في الأقطار الإسلامية هذا المفهوم من خلال التعبير عن المظالم السياسية والاجتماعية والاقتصادية تعبيراً دينيا والاعتبار الديني منحها المبرر للتمرد على السلطة.
وهناك اعتبار خاص بمفهوم العرب في العصر الجاهلي عن السُنّة، فالسنة لغة هي الطريق، طريق الأسلاف الذي ثبت أنه في أسفارهم في الصحراء يقودهم إلى واحات وعيون لولاها لهلكوا، وبالتالي فإنه من الخطورة بمكان أن ينحرف الفرد قيد أنملة عن طريق الآباء والأجداد. وقد قيد هذا الموقف العقلي الموروث قدرة العرب على المغامرة والابتداع وأشاع بينهم التقليد الأعمى والجمود. وقد أحدثت الدعوة الإسلامية تغيراً كبيرا في نفوس المعاصرين لعصر النبوة وما تلاه وموقفهم من القيم السياسية والدينية والاجتماعية لدرجة أن الذين ارتدّوا عن الإسلام قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وبعدها، ورفضوا الاعتراف بسلطة الخليفة في المدينة على سائر أنحاء شبه الجزيرة العربية خلعوا على دعوتهم سمت الدين وانتحل زعماؤهم لأنفسهم وصف النبوة وصوّروا ثوراتهم على أنها وحي من الإله، رغم أنه من الثابت أن هذه الثورات قد أشعلتها دوافع سياسية واجتماعية واقتصادية بحتة. لذلك كان من أبرز سمات التاريخ الإسلامي ارتباط الدعوات والأفكار الخاصة بضرورة التغيير وإزالة المظالم، وكذلك الآراء المناهضة لتلك الدعوات هي الأخرى، ارتباطا وثيقا بفكر ديني وما كان ليدور بخلد أتباعها أن احتجاجهم نابع عن غير العقيدة الدينية، ولا أنّ لهم من الأهداف غير تخليص الأمة من حكم لا يرضاه الله، والعودة بها إلى الطريق القويم، أو دعم حكومة ارتضاها الله للأمة واستئصال شأفة جماعات المعارضة.
ولا يمكن أن ننسى النزاع المرير خلال العصر العباسي الأول حول ما إذا كان القرآن مخلوقاً أو قديما قدم الله. وقد واكب قيام الدولة العباسية ظهور طبقة من الوزراء والكتّاب والولاة والإداريين المحترفين جلّهم من الموالي والفرس، كان هدفهم تعزيز سلطان الخليفة الذي من شأنه أن يوفر لهم حرية أكبر في نشاطهم الإداري. وكان من أبرز وسائلهم لتحقيق هذه الغاية أن يحرروا الخليفة من الخضوع لأحكام الشريعة، نظرا إلى أن هذا الخضوع إنما يعني إذعانهم في ممارسة سلطاتهم لرقابة منافسيهم وخصومهم، ألا وهم طبقة الفقهاء وعلماء الدين وقد أيّد هذا الاتجاه من طبقة الوزراء والكتّاب الكثيرون من الفرس والشيعة المعتدلين، في حين تصدت له بالمقاومة طبقة الفقهاء والعلماء التي أصرت على وجوب التزام الخليفة ووزرائه وولاته بأحكام الشرع وهو ما صادف هوى في نفوس الكثيرين من العرب ذوي النزعة الديمقراطية والمؤمنين بالمساواة. وهكذا ظهرت إبان ذلك العصر جبهتان متصارعتان، يمكن أن نسمي الأولى بالجبهة الأوتوقراطية وقوامها من الفرس ورجال الإدارة، وأن تسمى الثانية بالجبهة الدستورية، وقوامها من العرب والفقهاء.
وبمجرد أن تولّى المأمون الحكم بمعونة الفرس، وتمكن من القضاء على أخيه الأمين وأنصاره من العرب الأقحاح، حتى مال هذا الخليفة ذو الميول الشيعية إلى مساندة الجبهة الأوتوقراطية الراغبة في تعزيز سلطانه (سلطانها) وفي كسر شوكة العرب والفقهاء من أعدائها. وقد وجد المأمون في إحدى نظريات المعتزلة ما قد يصلح لأن يستند إليه في سبيل تحقيق غرضه، ألا وهي نظرية خلق القرآن. ذلك لأن القول بأن القرآن غير مخلوق، وبأنه قديم قدم الله، إنما يعني أنه مساو له في القدْر، وتعبير كامل عن حقيقته، في حين أن القول بأن القرآن مجرد كلام خلقه، يجعله بمثابة غيره من المخلوقات، كالناس والأنعام والجبال والحجارة، فليس له إذن من المقام ما يعزوه الفقهاء إليه، وبالتالي فإنه يمكن للخليفة أن يأخذ بأحكامه أو ينحّيها جانبا وفق ما يشاء. فالقول بخلق القرآن يُضعف من الأساس الذي تقوم عليه آراء الجبهة الدستورية التي تذهب إلى ضرورة أن يكون القرآن دستور المجتمع، والنظام السياسي للدولة، في حين تؤدي نظرية قدم القرآن إلى القول بأن الشريعة فوق الإمام وليس الإمام فوق الشريعة. وهذا مثال يوضح كيف اكتست الآراء والمذاهب المتباينة في أقطارنا في ميدان السياسة أو الاجتماع أو الاقتصاد ثوب الدين، وكيف أضحى الدفاع عنها أو التهجم على مخالفيها مصطبغا بصبغة الحرمة الدينية، لا الموضوعية العلمية (أبو شاكوش، حسن أحمد أمين، دار العين للنشر، القاهرة 2007، ص ص 148- 149).
وقد ارتفع الخطاب الأشعري بالحاكم إلى مقام الشراكة مع الله في الفعل والقدرة، بما يعني أن الاستبداد يصبح دينا يتعبد به الناس لله، وهكذا يحصن الاستبداد نفسه بأن يجعل من نفسه جزءاً من الدين على نحو يكون فيه أيّ سعي إلى مناهضته والخروج عليه بمثابة خروج على الدين ذاته. وليس من شك في أن هذه الحالة التي يستحيل فيها الاستبداد إلى نظام في الدين تكون هي الأكثر ضراوة واستعصاء على التحدي.
وقد مضى رجل الإصلاح الكبير عبدالرحمن الكواكبي يفضح الطريقة التي يسطو من خلالها المستبدّ على الدين ويحيله إلى مطية لطغيانه واستبداده؛ سواء أكان ذلك من خلال اتخاذه لنفسه صفة قدسية يتشارك بها مع الله، أم تعطيه مقاما ذا علاقة مع الله، أو يتخذ بطانة من أهل الدين المستبدين يعينونه على ظلم الناس باسم الله (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، عبد الرحمن الكواكبي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1993، ص 13).
وبالطبع فإن هذا الامتطاء للدين، من جانب المستبد، هو ما كان لا بد أن يجعل منه مجرد زخارف ورسوم شكلية خارجية، وبحيث يتحول إلى ما يشبه الدواء المهدّئ الذي تتعاطاه جماهير يائسة محبطة، لتتعزى به عما تعانيه من الاستبداد والقهر، ويفقد دوره الجوهري في تنوير الإنسان وتحريره بالأساس؛ وبما يعنيه ذلك من التأكيد على دور المستبد في تفريغ الدين من مضمونه وتحويله إلى مجرد شكل فارغ.
ولقد كان الكواكبي هو من كشف -وببراعة فائقة- عن الكيفية التي ينتج بها الاستبداد «التنطع» في الدين؛ والذي هو الآية الكبرى على دخول الدين إلى دائرة الخواء والصورية. فقد مضى إلى أن «المستبدين قد سطوا على الدين واتخذوه وسيلة لتفريق الكلمة وتقسيم الأمة شيعاً، وجعلوه آلة لأهوائهم، فضيعوه وضيعوا أهله بالتفريع والتوسيع والتشديد والتشويش وإدخال ما ليس منه فيه كما فعل أصحاب الأديان السائرة، حتى جعلوه دينا لا يقوى أحد ممّن يتوهمّ أن كل ما دونوه هو منه على القيام بواجباته وآدابه ومزايداته التي صارت تشتبه مراتبها على العام والخاص. وبذلك انفتح باب التلوّم على النفس اعتقاد التقصير، وأن لا نجاة ولا مخرج، ولا إمكان لمحاسبة النفس. وهذه الحال تصغر النفس وتخفت الصوت وتمنع الجسارة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المنوط بها قيام الدين وقيام النظام والعدل. وهذا الإهمال للمراقبة والسيطرة والمؤاخذة والسؤال أوسع لأمراء الإسلام مجال الاستبداد وتجاوز الحدود. وبهذا وذاك ظهر حديث «هلك المتنطعون» أي المتشددون في الدين (السابق ص ص 17- 18).
والأدهى من ذلك أن سياسة القهر التي انتهجها حكام المسلمين وعلماء الدين تجاه كل مبادرة فكرية حرة، كان لها من الآثار الوخيمة ما لا يزال العرب يعانون منه إلى يومنا هذا. فقد بات التصدي لتلك المبادرات الفكرية تصدياً إداريا من السلطة، لا تصدياً فكرياً من أصحاب الرأي المخالف. وقد أحبط هذا القمع العنيف كل محاولة من أجل التجاوب مع المتغيرات في العالم المحيط بدولة الإسلام، ومن أجل مجابهة التحديات الجديدة. فكان أن وجد المثقفون السلامة إما في التزام الصمت، أو الالتزام بما تمليه عليهم السلطتان السياسية والدينية. ثم كانت ثمرة أخرى لهذا الافتقار إلى الحوار الفكري بين أصحاب الآراء المختلفة: وهي أن الرجعيين من علماء الدين، وقد اطمأنوا إلى مناصرة الحكام المستبدين لهم، ومؤازرة السلطة السياسية والعسكرية وإلى فقدان المفكرين للجرأة على التحدي والنقاش، لم يجدوا ضرورة للتسلح بالمزيد من العلم والمعرفة من أجل ضمان النصر في أيّ جدل أو حوار مع مخالفيهم في الرأي وبالتالي فقد أهملوا الدرس والتحصيل، وقلّت بضاعتهم من العلم، وانصرفوا عن تراثهم الفكري الرائع، مكتفين بالاستناد إلى الحكومات في حماية العقيدة ومحاربة البدعة. وهو ما لا يزال يحدث في بلادنا إلى اليوم إذ نرى المتشددين كلما ظهر كتاب أو مقال يخالف فكرهم، يهرعون في جزع إلى السلطة يضرعون إليها أن تصادر هذا الكتاب، أو تقمع فكر هذا الكاتب، أو تمنع عرض هذا الفيلم أو هذه المسرحية، أو تغلق أبواب هذا المعرض الفني.
ويحضرني هنا ما ورد عن علي باشا مبارك من أنه أثناء تفقده لإحدى مدارس الريف المصري، وقف صبيّ فلاح يجهر بأن له رأياً مخالفا لبعض ما قاله الوزير، فلما انتهره ناظر المدرسة بقوله «اسكت يا ولد، عيب»، بادر علي مبارك يقول «بل دعه يعبر عما في خاطره. فما دام قد قال للوزير لا، فسيجد من السهل عليه بعد ذلك أن يختلف في الرأي مع أبيه، ومع العمدة، ومع المأمور وهو ما نرجوه، ونتطلع إليه» (أبوشاكوش ص ص 150-151).
ويكشف تاريخ الثورات أنها تندلع من أجل الدخول بمجتمعاتها إلى آفاق جديدة. ومن هنا فقد كان الظن بأن الثورات العربية سوف تفتح الباب أمام مجتمعاتها لدخول عصر الحداثة العقلية والسياسية والاجتماعية. لكن يبدو وكأن العرب -وكعهدهم في التفرد دوما- قد أرادوا لثوراتهم الراهنة أن تكون سبيلهم إلى النكوص إلى العصور الوسطى. فإذا كانت الثورة هي وسيلة البشر في الإفلات من قبضة البنية ذات التمركز الديني التي تمحور حولها عالم العصور الوسطى، فإن العرب قد جعلوا ثورتهم هي وسيلتهم في تديين السياسية. ولسوء الحظ فإن «العنف في كل أشكاله الناعمة والدامية يكاد يكون أحد أهم المآلات التي لا بد أن ينتهي إليها الخطاب الرامي إلى تديين السياسية. ويتفرع عن ذلك حقيقة أن التفكير في السياسة أو ممارستها بالدين، يحيلها إلى جملة شمطلقاتص سوف يجد البعض أن لا سبيل لتسكينها في الواقع -على فرض إمكان ذلك- إلا بالإكراه والقسر. وعلى الدوام، فإنه يبقى أن العبرة هي بالمصائر والمآلات التي تقتضيها أنظمة الخطابات، وليست بالمقاصد والنيات التي تسكن نفوس الأفراد»، (في لاهوت الاستبداد والعنف، الدكتور علي مبروك، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2014، ص ص 104-106).
مجلة الجديد اللندنية