الفساد زواج غير مشروع بين السياسة والثروة
عرض ومناقشة:محمد الخولي
الناشر: مطبعة جامعة بنسلفانيا، نيويورك، 2015
عدد الصفحات: 288 صفحة
من واقع عنوانه، يدور هذا الكتاب حول آفة الفساد، والتي يتعامل معها المؤلف من منظور استشرائها كظاهرة ارتبطت بنشوء الكيانات العملاقة التي أصبحت تحمل مسميات من قبيل الشركات متعددة الجنسيات أو المؤسسات الاقتصادية عبر الوطنية.
وفي هذا الإطار يتابع المؤلف هذه القضية، من موقعه الذي يجمع بين منظور البحث الأكاديمي وبين معايشة التجارب والقضايا المرتبطة بواقع الفساد الذي يورد الكتاب أمثلة صارخة ودالّة منه سواء من إفريقيا (جنوب القارة) أو آسيا (كوريا الجنوبية) أو أميركا اللاتينية (البرازيل) وغيرها من المواقع والمصالح والأقطار.
والكتاب يتوقف ملياً، وخاصة في الفصل السابع عند العوامل التي تدفع آفة الفساد إلى الأمام (فيما تنكص بداهة بمسيرة تنمية الجماهير ومصالح الشعوب إلى الوراء). وفي مقدمة هذه العوامل ..
ــ كما يوضح الكتاب ــ رابطة الزواج غير الشرعي بين سلطات الدولة ــ وخاصة في جانبها التشريعي وبين فعاليات الثروة السوبر ــ طائلة مجسدة في الكيانات الاقتصادية العملاقة التي لا تتورع عن شراء الذمم داخل برلمانات الأمم من أجل إصدار تشريعات توافق هوى تلك الكيانات، وتحقق لها مصالحها العاتية، حتى ولو كان ذلك على حساب مصلحة ملايين الناس ومستقبل أجيالها.
مطلع الأسبوع الأخير من شهر فبراير الماضي، نشر الكاتب الأميركي فرانك بروني، عموده الأسبوعي المعتاد في جريدة »نيويورك تايمز«، واسترعى أنظار القارئين العنوان الذي اختاره بروني لهذا المقال. جاء العنوان على الشكل التالي: »هيلاري.. جيب.. دولارات.. دولارات.. دولارات«.
حتى لفظة دولارات اختار أن يعبر عنها الكاتب المذكور بالعلامة الشهيرة الدالة على العملة المذكورة، فكان أن احتشد عنوان المقال بالرمز ($) المعروف للدولار.
تحت العنوان، تابع المقال خطاباً ألقاه، أخيراً، مرشح الرئاسة المنتظر جيب بوش، وهو بداهة ابن لرئيس أسبق وشقيق لرئيس سابق، وحرص فيه جيب أن يخاطب سامعيه مؤكداً أنه سيكون مستقلاً عن سياسات الأب والشقيق على السواء، لكن مقالة صحيفة »التايمز« لا تلبث أن تضيف أن هذا المرشح المستقل ــ بمعنى المتعفف النزيه ــ حصد من خطبته تلك أول دفعة من أموال التبرعات لحملته المرتقبة، وبمبلغ لا يقل عن 4 ملايين دولار.
وكان في ذلك ما يوحي بالطبع إلى أن الأموال السخية، مكشوفة كانت أو مستترة، هي الكفيلة بأن تحمل المرشح الرئاسي بوش أو المرشحة الرئاسية هيلاري إلى المنصب رقم واحد في البلاد.
وبديهي أيضاً أن المتبرعين ليسوا مجرد مواطنين معجبين بالديمقراطية أو مشجعين لمسيرتها، إنهم أصحاب مصالح وأغراض ومكاسب بالدرجة الأولى. وهي مصالح عاتية وأغراض مشبوهة، ومكاسب يمكن أن تحصي بالمليارات في أغلب الأحيان.
مرض اسمه الفساد
هذا العناق بين السياسة والمال، أصبح يعرف في »أجروميات« الدول، وفي عصر العولمة الراهن بالذات باسم واحد هو »الفســـــــاد«.
وفيما كانت آفة الفساد تقتصر في الماضي على دوائر بعينها في هذا البلد أو في ذلك الركن من خارطة العالم، إلا أن التوسع إلى حد الاستشراء أصبح السمة المميزة للفساد، ولدرجة أن دخل قاموس السياسة الدولية مصطلح »الفساد العولمي« (أو الفساد الكوكبي).
وهذا هو بالضبط العنوان الرئيسي للكتاب الذي نعايشه في سطورنا الراهنة.
أما العنوان الفرعي للكتاب فهو يعمد إلى إكمال المعنى على النحو التالي: المال والسلطة والأخلاق في العالم الحديث.
وكأنما يستهل الكتاب مقولاته بإشارة لا تخفى ــ كما يقولون ــ على القارئ اللبيب، إلى ما أصبح يتردد في كل الأوساط بشأن زواج الثروة والسلطة، وهو زواج غير مشروع بطبيعة الحال.
مؤلف هذا الكتاب مثقف بريطاني، اختصاصي في الاقتصاد، الزراعي بالذات، والأهم أنه يصدر في دراساته المنشورة، ومنها كتابنا بالذات، عن تجربة ميدانية وعن خبرة عملية مباشرة بأحوال الفساد الضارب أطنابه في أقطار شتى من خارطة عالمنا، وخاصة في قارة إفريقيا التي مازالت تعايش، إن لم تكابد، آفة التناقض بين ميزة الغنى المتمثل في احتواء أراضيها البكر على ثروات نفيسة من ركازات المعادن..
فضلاً عن مستودعات ومخزونات واحتياطيات ثمينة أيضاً من المياه العذبة اللازمة للزراعة، بل لاستمرار الحياة ذاتها، وبين لعنة الفقر ــ المدقع في غالب الأحيان ــ بسبب ما تعانيه القارة السمراء من مشكلات التخلف وتعثر التنمية وسلوكيات الفساد.
على أن المؤلف يختار لاستهلال كتابه مساحة أخرى بخلاف إفريقيا أو مثيلاتها في العالم النامي: شيء ما في كنــــدا.
الكتاب يستهل مقولاته من بلد لا يكاد يرد له ذكر في قائمة الفساد في عالمنا، يبدأ كتابنا من كندا. وبالتحديد من واقع ما يصفه المؤلف بأنه مسلسل الفضائح الذي أميط عنه اللثام على مدار السنوات الثلاث أو الأربع الأخيرة، وترددت أصداؤها في صحافة إقليم كيبيك الفرنسي الثقافة من الكيان الكندي، فكان أن تكشفت..
ــ كما يقول مؤلفنا ــ أسرار شبكة فساد تضم رؤساء المدن الكبرى إلى جانب حلفائهم من رجال الأعمال ــ ملوك صناعة التشييد كما يسميهم المؤلف، ومعهم بالطبع جامعو الأموال (تحت مسمى التبرعات) لصالح الحملات الانتخابية للسياسيين. وطبعاً كان الثمن المقابل للتبرعات باسم دعم الديمقراطية هو إرساء العطاءات الحافلة ومنح العقود السوبر ــ السخية إلى ملوك التشييد وبارونات التصنيع ..
ومَنْ في حُكمهم، وقد فاحت رائحة هذا الفساد الكَنَدي لدرجة أن جاء عام 2012 ليجبر ثلاثة من أكبر وأهم رؤساء المدن في كندا على الاستقالة بعد أن وجهت إليهم تهم التربّح وسوء السلوك.
في هذا السياق يذهب مؤلفنا، لورنس كوكروفت، إلى أن خطر الفساد لا يقتصر فقط على خسائر مالية تتكبدها الخزينة العامة المملوكة بداهة لجماهير المواطنين: إنه يمتد إلى حيث يدمر ــ كما يحذر كوكروفت ــ ثقة هذه الجماهير في حكومتها، وبالتحديد في مدى أمانة ونزاهة الأفراد والمؤسسات المسؤولة عن إدارة دفة الحكم بشكل عام.
مليارات الفساد الأميركية
من هنا حرص المؤلف على توسيع دائرة البحث التي تصدر عنها مقولات هذا الكتاب: وها هو يتحول مع بوصلة الفساد، العمومي كما قد نسميه، إلى أقطار أخرى فلا ينسى قبل أن يغادر كندا في قارة أميركا الشمالية، أن يلمح إلى ما تشهده أو ما تعانيه جارتها ــ الولايات المتحدة ــ من آفات فساد، وخاصة في مجال العمل السياسي العام..
حيث يؤكد المؤلف أن الحملات الرئاسية التي تمت في الحقبة الأخيرة شهدت إنفاق الحزبين الديمقراطي والجمهوري مبلغاً يصل ــ كما يسجل الكتاب ــ إلى 2.5 مليار من الدولارات، حيث الهدف ببساطة هو شراء النفوذ السياسي بالدرجة الأولى.
في الإطار نفسه، يحيل مؤلفنا إلى استطلاع إحصائي تم إجراؤه على مستوى الرأي العام في الاتحاد الأوروبي، فأوضح أن ثلثي سكان الأقطار السبعة والعشرين من أعضاء الاتحاد المذكور، يرون أن الفساد مشكلة خطيرة ولكنها موجودة في البلدان التي ينتمون إليها، فيما يصنّفون الفساد السياسي الذي ألمحنا إليه على أنه رقم واحد في جدول آفة الفساد وسلوكيات الساسة الفاسدين.
وقبل مغادرة أصقاع الاتحاد الأوروبي، لا تفوت فصول هذا الكتاب الإشارة الأخطر، وهي أن جانباً من أموال الفساد في بلد مثل إيطاليا كانت تتأتّي من جانب عصابات الجريمة المنظمة المعروفة باسم »المافيا« ومن مقرها المعروف في جزيرة صقلّية، وهو ما ظل متداولاً بالطبع خلال العقود الأخيرة من القرن الماضي، ولدرجة أودت بسياسي إيطالي مرموق هو رئيس وزراء البلاد الأسبق جوليو أندريوتي إلى غياهب السجن بتهم الفساد المرتبط بعصابات المافيا.
برلمان البرازيل أيضاً
وتواصل فصول هذا الكتاب جولتها الموجعة في رصد آفة الفساد الكوكبي على امتداد خارطة عالمنا، تشير إلى ما تشهد به المستندات من أموال دفعت إلى أركان حزب المؤتمر في جنوب إفريقيا من أجل تمرير صفقة سلاح بمبلغ 5 مليارات يورو في عام 1998.
ثم تعبر فصول الكتاب مياه المحيط الأطلسي من إفريقيا إلى أميركا اللاتينية، وإلى البرازيل بالذات، حيث اتسعت رقعة الفساد رغم الأشواط الإيجابية التي اجتازتها البرازيل خلال حقبة سيلفا دي لولا رئيسها السابق..
وقد اتسمت بنجاح المواجهة الإيجابية والفعالة لآفة الفقر وبإنصاف جموع الفقراء في البرازيل التي استطاعت مع بدايات القرن الجاري أن تنضم ــ كما هو معروف ــ إلى مجموعة »البريكس« جنباً إلى جنب مع كل من الصين وروسيا والهند وجنوب إفريقيا ــ وهي المجموعة الموصوفة بأنها تضم الاقتصادات الصاعدة أو الناهضة على مستوى عالمنا.
البرازيل نفسها حلّت عليها أيام سبتمبر من عام 2012 فإذا بها وقد أصابتها حمّي الفساد ــ كما يوضح مؤلفنا تشهد الإعلان عن قضية حملت اسم »مانسلاو«، وانطوت على توجيه اتهامات إلى عدد بلغ 30 من أعضاء البرلمان البرازيلي الذين ثبت تلقّيهم رشى من جانب مديري الشركات والفعاليات الاقتصادية الخاصة.
وقتها لم يمض على توجيه الاتهام المذكور أعلاه سوى شهر واحد ليس إلا، وبعدها أدين بتهمة الفساد 25 نائباً، بعد أن أكدت المحكمة العليا في البرازيل أنهم تقاضوا الرشى من أجل سنّ قوانين وإصدار لوائح وتنظيمات، بحيث تصبّ في مجموعها في مصلحة الاحتكارات الاقتصادية في البلاد..
ولم تكن مصالح مشروعة في التحليل الأخير. والمعنى مرة أخرى، هو تأكيد وتوطيد تلك الرابطة غير المشروعة التي تصل ما بين السياسة والمال. ولما كان المال حراماً في أصله وفي مسارات توجيهه..
فإن كتابنا لا يلبث أن يخلص إلى رصد اكتمال الدائرة الجهنمية التي عكف المؤلف على تقصي أبعادها، إنها تجمع ما بين المصالح الاقتصادية العاتية (شركة عبر وطنية أو مؤسسة متعددة القوميات كما يسمونها في عصر العولمة الراهن) وسياسيون أو متنفذون بغير وازع من ضمير..
وهو ما يوصل لدى اكتمال الدائرة إلى قوانين تصدر وتشريعات يتم سنّها وتطبيقها بحيث تتحقق مصالح دافعي الأموال، وبغير نظر أو اعتبار إلى مصالح أهل البلد المعني. وهنا تتجسد آفة الفساد في معناها وفي ممارستها الواقعية، وفي آثارها المدمرة على نظام الاقتصاد ومصالح الجماهير ومنظومة الأخلاق والسلوك، فما بالنا ــ والمؤلف يواصل تحذيراته ــ وأن هذه الآثار لم تعد تقتصر على بلد بعينه.. ولا على أنساق اجتماعية أو ثقافية بذاتها، وإنما باتت تتسم بصفة أنها عابرة للبلدان والأقطار، أصبحت تكتسب صفة العولمة على نحو ما يذهب إليه مؤلفنا في عنوان هذا الكتاب، خصوصاً وأن العولمة أدت، كما يوضح الكتاب أيضاً ــ إلى توسيع حجم الأسواق واتساع هيمنة المؤسسات العملاقة التي اكتسبت القدرة على تداول الأموال والتحكم في أسعار العملات على المستويات الخارجية..
وهو ما أوجد أيضاً عينات طبقية فادحة النفوذ من حيث التأثير في مصالح الدول والشعوب. من هنا يظل المؤلف يواصل تحذيراته على مدار الفصول الاثني عشر التي يضمها هذا الكتاب الذي يبدأ فصله الأول بسؤال: ما هو الفساد؟ فيما ينتهي فصله قبل الأخير (رقم 11) بدعوة للإصغاء إلى صوت الناس (الجماهير صاحبة المصلحة الأساسية) ليختتم الكتاب مقولاته بفصل أخير يضم دعوة تحت عنوان تشكيل المستقبل.
رئيسا وزراء كوريان دخلا إلى السجن
يتحول المؤلف، عبر فصول من هذا الكتاب، إلى ربوع آسيا. ويتوقف ملياً عند واحد من أنجح أقطار جنوب شرقي آسيا في مضمار الاقتصاد والإنتاج والتصنيع، وهو كوريا الجنوبية على وجه الخصوص، لكن يشوب هذه النجاحات ــ مرة أخرى ــ غوائل الفساد، حيث التحالف، كما أسلفنا ــ بين السلطة والثروة، بين سطوة النفوذ السياسي وشهوة التربح غير المشروع بحكم التعريف.
ومرة أخرى فقد دخل السجون اثنان من رؤساء وزراء كوريا الجنوبية، بعد أن ثبتت على الأول تهمة التربح بالفساد في عام 1996. أما الثاني، وهو روموهين فقد أدين بدوره بتقاضي الرشوة، فكان أن أقدم في السجن على الانتحار في عام 2009.
ثم ماذا عن الهند بكل سمعتها في مضمار الديمقراطية منذ أيام الزعيم نهرو وابنته أنديرا؟
الهند بلد عريق في الديمقراطية، ولكنه يواجه أيضاً آفة الفقر المدقع في بعض الأحيان، بهذا يسلّم مؤلف كتابنا. ولكنه يضيف معّبراً عن دهشة لا تخفى على القارئ حين يسجل من واقع البحوث التي أجراها، أن الأمر اقتضى أخيراً، إنفاق مبلغ جسيم بمقياس الحالة الهندية.. وهو 10 ملايين دولار، لشَغْل، أو بالأدق »لشراء« مقعد نيابي بالبرلمان الاتحادي في نيودلهي. وهنا يعلق المؤلف في سطور موجزة تقول بما يلي:
إن مثل هذا المبلغ ما كان يمكن تجميعه في الهند إلا من خلال تعاقدات تم الحصول عليها من جانب الفاسدين والمُفسدين، وهو ما يؤدي إلى إيجاد حالة يتعين فيها على »المستثمرين« أن يحصلوا على عائد للاستثمارات التي يوظفونها من خلال ضمان جولة أخرى من العقود الممنوحة من طغمة الفاسدين.
اعترافات رئيس مجلس إدارة
يتحدث المؤلف عن تصريحات سبق أن أدلى بها بيتر لوسكر الذي أصبح في عام 2008 رئيس مجلس الإدارة الجديد لواحدة من أكبر الشركات العاملة في صناعة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات.
وفي هذه التصريحات يؤكد هذا المسؤول أن شركته قد دفعت رشى ــ إلى مسؤولين كبار في عشرين دولة في العالم وفي حدود 1.5 مليار من الدولارات، وكان من بينها مبلغ 440 مليون دولار أثبتت التحقيقات أنه تم دفعها أو توجيهها لصالح سياسيين وأحزاب سياسية مازالت ناشطة على صعيد تلك الأقطار العشرين.
المؤلف
يمكن القول إن الإعلامي الباحث الإنجليزي لورنس كوكروفت عايش آفة الفساد السياسي منذ مطالع شبابه . درس في جامعة كامبردج البريطانية . و شاءت أقداره أن يوفدوه إلى مركز تدريبي في نيجيريا، مطالع الستينات من القرن العشرين.
وخلال هذه التجربة أدرك المؤلف كيف أن الفترة الاستعمارية التي عاشتها إفريقيا تحت نير الاستعمار ما برحت تخلّف آثاراً سلبية ، وهو ما عرض له كوكروفت في بحث بعنوان »طريق إفريقيا: رحلة من الماضي«.
صحيفة البيان الأماراتية