
هل يمكن للتنظيمات أن تحافظ على أمانتها الفكرية دون أن تتنازل عن جزء من طهارة الفكرة؟
ليست التنظيمات هي رجالها، ولا الحركات هي أفكار مؤسسيها بالضرورة، فهذه ليست مجرد ملاحظة عابرة، بل هي قانون تاريخي يحكم سيرورة تحوّل الأفكار الكبرى إلى كيانات على الأرض، حين تبدأ رحلة الافتراق بين الفكرة والواقع، وتتحول الحركة من تجسيدٍ لرؤية المفكر إلى التباين معها. ولتوضيح الفكرة، سأعرض ثلاثة نماذج حركية بارزة:
1– جماعة الإخوان المسلمين: من التربية إلى البراغماتية
مثّلت المدرسة الإصلاحية التي أسسها الشيخان محمد عبده ورشيد رضا محاولة فكرية جادة لإحياء العقل الإسلامي وتحريره من الجمود، وتجديد الفقه والاجتهاد، وقام مشروعهما الإصلاحي على التدرج والممارسة العملية دون الانخراط المباشر في العمل السياسي، حفاظًا على ثبات المشروع الفكري.
مع تأسيس جماعة الإخوان المسلمين على يد الداعية حسن البنا عام 1928، انتقل هذا المشروع الفكري إلى فضاءٍ حركي جماهيري منظم، حيث أصبح التأثير الاجتماعي والسياسي هدفًا رئيسيًا إلى جانب البعد التربوي. غير أن السياق التاريخي دفع الجماعة إلى الانخراط المباشر في السياسة والمواجهة، فتراجع البعد التربوي تدريجيًا لصالح الاعتبارات التنظيمية.
نتج عن هذا التحول انفصالٌ جزئي بين الفكر والأداء، إذ تراجعت الروح النقدية الاجتهادية التي بشّر بها المصلحون الأوائل، وغلب منطق التنظيم، وأصبح الحفاظ على الكيان واستدامته هو الهدف المركزي، بينما تراجعت أهداف الإصلاح الفكري والاجتماعي، حتى أصبح مصلحون مثل الشيخ محمد الغزالي أقرب إلى العزلة.
2– حزب الدعوة الإسلامية: من الحضارة إلى السياسة
تأتي تجربة “حزب الدعوة الإسلامية” مثالًا بارزًا على حدة هذه المفارقة، حين انطلق الحزب من رحم رؤية المفكر السيد محمد باقر الصدر الشاملة، التي عبّرت عن مشروع حضاري يستهدف إعادة بناء العقل والمجتمع على أسس جديدة، وتمثل ذلك في مؤلفاته التأسيسية مثل فلسفتنا واقتصادنا.
لكن مع تعرّض الحزب للملاحقة والقمع في عهد نظام البعث، تعمقت أدبيات العمل السري وأدوات التنظيم الحديدي، ثم بعد سقوط النظام عام 2003 وانفتاح أبواب السلطة، بدأ التحول الجذري للحزب من حركة فكرية – سياسية إلى آلة سياسية ضخمة، غارقة في مستنقع الصراعات السياسية وإدارة الدولة الهشة.
وتحوّلت وجهة الحزب من حمله لمشروع “إسلامي إصلاحي” إلى لاعب في “الصراعات السياسية” في العراق، مما أوقعه في تناقضات صارخة بين شعاراته المثالية وممارساته البراغماتية. لقد ضاقت رؤية الصدر الرحبة لتصبح محصورة في “منطق القبيلة السياسية” والصراع على السلطة.
3– منظمة العمل الإسلامي: من التجديد إلى التقليد
تمثل منظمة العمل الإسلامي نموذجًا واضحًا لكيفية تحوّل المشروع الفكري التجديدي إلى خطاب تنظيمي تقليدي. إذ تعود جذور المنظمة إلى الحركة الرسالية في كربلاء في سبعينيات القرن العشرين، مستلهمةً أفكار السيد محمد الشيرازي، مؤلف التيار الإصلاحي والحرية الإسلامية والسبيل إلى إنهاض المسلمين.
ثم انتقلت بقيادة ابن أخته السيد محمد تقي المدرسي إلى تأسيس “منظمة العمل الإسلامي”، وفي كتبه الثقافة الرسالية والنهج الإسلامي والعمل الإسلامي ركز السيد المدرسي على مقاومة الجمود وتجديد الفكر الإسلامي عبر ما عُرف بتنمية “العقلية الرسالية” النقدية، كما أكد في أكثر من موقع على أن القيادة يجب أن تكون قادرة على بلورة رؤية واضحة لنهضة الأمة، لا أن تكون مجرد منصب شرفي.
ومع تطور الهيكل التنظيمي في الثمانينيات والتسعينيات، وتعرّضها لانشقاقات حركية موجعة، تبدلت أولوية المنظمة من التجديد الفكري إلى الحفاظ على الكيان وإدارة الصراعات الداخلية، وتحولت من حركة تسعى إلى “إطلاق العقل” كما ورد في أدبياتها المبكرة، إلى تنظيم يكرّس خطابًا تقليديًا وعظيًا، مشابهًا للخطاب الذي كان السيد المدرسي ينتقده في كراساته وخطاباته.
وهنا نصل إلى المفارقة الأكثر وضوحًا: فلو افترضنا أن المفكر المؤسس بُعث من جديد بعد استقرار المؤسسة التنظيمية، وشاهد مسارها السياسي والثقافي، وعاين سلوك أفرادها وأداءهم، لجلس في موقع الناقد لممارسات جماعته التي أسسها، لأنها – في الغالب – لا تشبه أفكاره، ولا تلبّي طموحه المعرفي.
هذه النتيجة هي الثمرة الحتمية لرحلة تحول معقدة من عالم الفكر إلى عالم الفعل؛ فالفكرة في ذهن مؤسسها تكون كالنهر الجاري، لكنها عندما تتحول إلى تنظيم، تتقيد بقنوات الري في مساراتها وبطبيعة الأرض التي تتحرك عليها.
ويبقى السؤال الأكثر إلحاحًا: هل يمكن للتنظيمات أن تحافظ على أمانتها الفكرية دون أن تتنازل عن جزء من طهارة الفكرة؟
ميدل إيست أونلاين



