الفلسطينية رندة الخالدي تكتب سيرتها «غير البطولية»

في مطلع روايتها «سيرة غير بطولية» (بيسان للنشر والتوزيع)، تنبّه رندة الخالدي قرّاءها الى أن أبطالها وبطلاتها لا يتماهون أو يتطابقون مع اي من البشر الأحياء والأموات، بل انهم من صنع المخيلة الروائية. وهذا التنبيه ناجم عن الالتباس الذي يشكّله عنوان الرواية، ومرجعيتها المنوطة بذات الكاتبة، عبر ضمير المتكلم المؤنث والذي لا محالة يفترض ان الكاتبة هي نفسها الراوية. وسواء إن كان الحال على ما ذكرت، أم كانت الكاتبة منخرطة في العمل السردي الذي تُخضعه للاختبار والتحقق في ميزان الصدق والكذب، فإن لكل عمل قصصي منطقه وقوانينه الخاصة، ولا أهمية لأمانة النقل بالمعنى الأخلاقي، او للتطابق بين المؤلف والراوي. حتى ولو كان في نية الكاتبة أن تروي سيرة حياتها عبر الرسم الذاتي الأدبي، أو صورة الذات، فلا يمكن ان تكون وصفاً حقيقياً مرجعياً لذات المؤلف. فما الذات في العمل السردي إلا مرآة من حبر، وفق ما يقول الناقد الفرنسي ميشال بوجور. مرآة معتمة مشوشة بفعل اللغة والثقافة، تعطي ذات المؤلف من حيث لايدري هوية جديدة يكتسبها بفعل الكتابة، حتى وإن ظلت بؤرة الأحداث والمعلومات السردية، وسائر مكونات العالم المصور منقولة من خلال وجهة نظرها، وتدور في حقل إدراكها.

تتمتع رواية رندة الخالدي بمواصفات روائية جيدة، تفننت الكاتبة في إظهارها وإظهار جمالياتها، وتميزت بذاكرة خصبة هي حصاد سنين طويلة عاشتها رندة، وهي اليوم تربو على الثمانين سنة، وقد اختزنت العديد من الخبرات الاجـتمـاعيـة والـــفــكــريـــة والسياسية، وخاضت من التجارب حلوها ومرها، وذلك بأسلوب سلس، ولغة كلاسيكية راقية مطعمة بحوارات عامية غير مبتذلة.

أقنعة الرياء

تجعل الكاتبة من موضوع الخلافات الزوجية الشائعة في الحياة وفي الأدب موضوعاً واسعاً ومتشعباً ينفتح على البيئة السياسية والاجتماعية، ويُظهر حالة المرأة الشرقية وما تعانيه من آثار التخلف، وعدم القدرة على استغلال إمكاناتها. ويساعد عاملان في حياة بطلتها على إبراز قضيتين مرتبطتين بوضعها. أولاهما القضية الفلسطينية بحكم أن البطلة فلسطينية الجنسية، والثانية حياة الديبلوماسيين نتيجة وظيفة زوجها السوري كسفير في دول عدة.

في المسألة الفلسطينية تبدو البطلة شديدة الحماسة في بداية الثورة، وهي تخلع روبها الجامعي كأستاذة في الأدب الإنكليزي لتكرّس وقتها وخبرتها في سبيل قضية بلدها، على رغم ما شابها من أخطاء اقترفها متطفلون وانتهازيون.

أما القضية الثانية فهي تستحوذ على فضاء الرواية بأجمعه. فنتعرف على عالم الديبلوماسية الذي تكثر فيه المداهنة و»التمثيل الرتيب الممل الذي يُلبس اعضاءه الأقنعة ويدثرهم بالرياء ويربط ألسنتهم ويشل قدرتهم على إبداء رأي شخصي، أو إظهار عاطفة إنسانية حقيقية» (ص 151). وهذه الصفات تتنافى مع شخصية البطلة الصريحة والتي دفعت من حياتها وسعادتها ثمناً لها.

وعلى خلاف ما ينطبع في أذهان الناس العاديين الذين يرون حياة الديبلوماسيين من وراء الواجهات البراقة، فإن الدول تتصرف بحياة السفراء وحياة عائلاتهم تصرّف لاعب الشطرنج الذي ينقل حجارته من خانة إلى أخرى. وقد انعكست المهمة الديبلوماسية على عقلية زوجها حسان وعلى تصرفاته وخطابه، وفق مقتضيات وظيفته، ففاقمت من الخلاف بين وجهة نظريهما المتباينتين منذ بداية الزواج حتى نهايته التي اختُتمت بوفاة الرجل.

تحتل البطلة – الراوية مساحة الرواية وزمنها، وهي تضيء على دورها، ومن خلالها على زوجها المتكتم والمكتئب، ذي الطباع الصعبة والمزاج السوداوي. وعلى رغم احتلال البطلة بؤرة الرؤية، فإنها لم تستطع أن تقترب من ذهنية زوجها، أو تنبش ما يجول في عقله من أفكار، أو تسبر اغوار لاوعيه. شخصية غامضة لم تفهم أبعادها البطلة التي اكتفت بتدريب نفسها على التنبؤ بالتغيّرات التي تطرأ عليه، والتأقلم مع أطواره المتبدّلة وكلامه الشحيح. شخصية منطوية على ذاتها، على الضدّ من شخصيات أسرتها الأرستقراطية التي تعيش ظروفاً منفتحة، لا تعقيد فيها ولا خفايا أو زاويا مظلمة.

تجاذب عقلي

إزاء هذا الصدود وتلك البرودة الناجمة عن تحفظ الزوج كان لا بد للبطلة من البوح بما يجول في أعماقها، لا سيما عندما كانت تمرّ بأوقات عصيبة وأزمات حادة. وهذا البوح اتخذ شكل مونولوج عاكساً ما في داخلها من أفكار ومشاعر وألم مكبوت. وإذ تحاول التكامل مع الزوج، فإنّ جهودها تبوء بالفشل لشدة الفارق بين الإثنين. فارق ليس طبقياً فحسب، فهذا رهان فازت فيه البطلة على رغم العوائق التي اعترضتها من عائلتها ومن محيطها، وأكدت إيمانها بضروة إزالة الفوارق الطبقية والاقتصادية. وهي بذلك تقدم نفسها مثالاً حياً لبنات جيلها وطبقتها الثرية، إذ ترفض مفهوم الزواج كصفقة، أو أن تتعامل به كسلعة قابلة للبيع والشراء. الفارق الذي يصعب ردمه بين الطرفين كان الفارق بالمزاج والسلوك والقناعات الفكرية.

من هنا تبلور الخلاف بين البطلين على أكثر من صعيد. فكان تجاذباً بين عقليتين، او بين تربيتين متباينتين. أو بين المظاهر البروتوكولية المصطنعة لزوجها، والمواقف الحقيقية الصادقة لامرأته التي تنشد الحرية والعفوية، وتكره الحفلات الرسمية المملة والمناسبات المُختلقة. فالديبلوماسية لديها قناع يجب خلعه. لذا كانت تعاني من صعوبة لعب هذا الدور التمثيلي، وتتمنى أن تستقيل من دورها المفروض عليها لتعيش لحظة صدق مع ذاتها.

تريد الزوجة من زوجها المستغرق في الرسميات والتقاليد الديبلوماسية أن يلتفت إليها، وإلى تلبية حاجاتها وصبواتها. وهي التي كانت تعيش في خمسينات وستينات القرن الماضي متأثرة بلهيب الأحاسيس والمشاعر الرومنطيقية التي أغدقتها عليها وعلى بنات جنسها وقتذاك الأفلام الهوليوودية والسينما المصرية والأغاني العاطفية والأشعار الغزلية والروايات التي تمجّد الحب والغرام.

روح المنازل

شكّلت تجربة العمل الديبلوماسي الدينامية الأساسية في الرواية التي زادت الصراع بين هاتـــين الشخصــيتين المخــتلفتين. لكنها أضاءت على ما يصيب شخصية السفير أو الديبلوماسي من تغيرات تطرأ على فهمه للحياة. وأفسحت المجال للبطلة كي تسجل انطباعاتها عن الناس المختلفين عنها بلغاتهم وعاداتهم، وعن الأمكنة والبيوت التي سكنتها بحكم مهمات زوجها وتنقله بين البلدان. فرأت ان للمساكن شخصية، وروحاً خاصة تنسجم أو تنفر من قاطنيها، وألمّت بما يمكن أن نسميه «جمالية المكان» الذي اختص به المفكر غاستون باشلار. فهي تتفحص أركان المنزل وأثاثه بعين مدربة، وتشعر بكيمياء تجذبها او تنفرها من منزل دون آخر. وتستنتج إذا ما كان المنزل الذي ستقطنه سيفتح لها ذراعيه مرحباً، أم أنه سيغلقهما في وجهها، ويُعلن العداوة حتى رحيلها عنه.

تقوم رواية «سيرة غير بطولية» على استرجاعات زمنية جزئية تتقاطع مع الاسترجاع الأساسي (analepse) الذي يسلط الضوء على ما فات أو غمُض من حياة شخصية البطلة، وعلى ما وقع لها وما جعلها على هذه السوية من دون غيرها، كشخصية ثائرة متمردة وحانقة على سلبيات مجتمعها ومحيطها، وعلى زوجها البارد غير المتفاعل معها. وهذا التقاطع بين الأزمنة يجعل الرواية أكثر مرونة، إذ تنتقل من زمن إلى زمن فتكون الحكاية سابقة للفعل السردي، وأحياناً أخرى يكون زمن السرد متزامناً مع رواية الأحداث أثناء وقوعها. أي يطابق زمن الحكاية زمن السرد فتنتقل الرواية من حدث إلى حدث، وتنفتح على شتى الاحتمالات.

صحيفة الحياة اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى