“الفلسفة والشريعة” تحليل جينالوجي لأبحاث ليو شتراوس في نقد الحداثة

 

كتاب المفكر المصري الدكتور أحمد فاروق “الفلسفة والشريعة: ليو شتراوس ونقد الحداثة” الصادر حديثا عن دار رؤية للنشر والتوزيع بالقاهرة العام 2019، دراسة فلسفية رائدة من حيث روعة المبنى وشمول المعنى وحصافة المغزى والجوهر، رغم أنها تتناول أعمال الفيلسوف الأميركي ليو شتراوس (1899-1973)، الذي يوصف بأنه فيلسوف باطني بمعني أن ما يضمره أكثر بكثير مما يصرح به، ومع ذلك تحتل دراساته مكانة بارزة في حقل الفلسفة السياسية، وأفكاره لا يمكن تجاهلها من قبل أي دارس جاد للأمور السياسية. حيث يقدم تحليل شتراوس للحداثة السياسية سبيلاً يمكن من خلاله تأويل الاتجاهات التواصلية والثقافية لعصرنا، فهو يتناول التيارات الرئيسة للفلسفة في زمانه، ويحلل الظاهرة الاجتماعية والفكرية المميزة لمولد العصر الحديث، بغية تطوير فكر نقدي لديه القدرة على تفكيك أسطورة الحداثة السياسية: وهو يعني بذلك فكرة التقدم. إذ إن شتراوس لا يرفض التقدم كظاهرة تاريخية ولا الإنجازات التكنولوجية المصاحبة له، لكنه ضد الإيمان بالتقدم بوصفه أسطورة جديدة تحل محل الأساطير التي حاربتها الحداثة السياسية وانتصرت عليها، فالتقدم بوصفه أسطورة أو سردية كبرى للشرط الإنساني ليس لديه القدرة على العمل كمعيار للتوجيه الأخلاقي الضروري للسيطرة على التقدم وعواقبه.

مقاربة الدكتور أحمد فاروق ترى أن دراسات شتراوس اللاهوتية – السياسية للحداثة، قادته إلى النظر لليبرالية بوصفها ديانة، أكثر أشكال الدين راديكالية وجدت حتى الآن. وترى الحداثة السياسية الليبرالية بوصفها المرحلة النهائية والفريدة للتطور التاريخي للبشرية، وتُعدها على هذا الأساس مرادفة للحضارة بمعني مطلق، ورغم ذلك فإن الليبرالية لا تقدم شيئا غير إعادة إنتاج نفس العدمية التي اقترنت بها منذ بدايتها.

إذن موضوع هذا الكتاب، هو فلسفة ليو شتراوس السياسية وأسسها في الفلسفة الإسلامية والكلاسيكية، وعند الفارابي على وجه الخصوص. حيث ترتكز فلسفة شتراوس السياسية على ثلاث قضايا أساسية؛ الأولى هي أن الفارابي بالنسبة لشتراوس كان على وعي في تفلسفه بوجود نوعين من الخطر: الخطر الذي تمثله الفلسفة للمدينة، والخطر الذي تُعَرِّض المدينة الفلسفة له. والقضية الثانية هي أن هذا الخطر المزدوج أدى بالفلاسفة إلى اللجوء لنمط خاص من التفلسف يهدف إلى إخفاء الحقائق الفلسفية، أعني الحقائق الخطيرة، عن جمهور أهل المدينة وقصرها على دائرة الفلاسفة. والقضية الثالثة تتمثل في الغاية التي تسعى إليها فلسفة شتراوس والتي تتجسد في محاولة فهم فلاسفة الماضي كما فهموا أنفسهم، والحاجة إلى إنجاز ذلك الفهم تتعدى نطاق الانشغال الأكاديمي العلمي بالفلسفة الكلاسيكية: إذ يعد مثل هذا الفهم أو التأويل على خلفية أزمة زماننا ثلاثية الأضلاع – أزمة الفلسفة، والحداثة السياسية، والحضارة الغربية – بمثابة علاج أو خروج منها.

من هنا يذهب أحمد فاروق إلي القول بأن هدف مشروع شتراوس الفلسفي هو تجاوز أزمة الفلسفة السياسية الحديثة التي تصل إلى ذروتها بحسب شتراوس في المذهب التاريخي، المذهب الذي يدَّعى أن كل الفكر الإنساني مشروط تاريخيًّا. وبالنسبة لشتراوس يمكن تجاوز المذهب التاريخي ونتائجه العدمية في نهاية تحليل جينالوجي عبر العودة إلى الفلسفة السياسية الكلاسيكية. لكن كيف يتم الانتقال من عالم الفلسفة الكلاسيكية إلى التاريخية؟ المذهب التاريخي في رأي شتراوس هو رد فعل لأزمة التنوير، المشروع الذى ظهر للوجود مع ميكافيللي واستمر مع هوبز ولوك مؤسسي الليبرالية الحديثة. وبمقدورنا فهم التنوير الحديث لو قارناه بالتنوير الكلاسيكي- والتنوير الكلاسيكي تعبير يستعمله شتراوس لوصف تراث فلسفي يبدأ مع سقراط، ويستكمل من قبل أفلاطون وأرسطو، ويستمر في الوجود في العصور الوسطى في الفلسفة الإسلامية واليهودية عند كل من موسى بن ميمون والفارابي.

يبرهن هذا الكتاب على أن الفارابي في رأي شتراوس أفلاطوني، أفلاطوني حقيقي: فهم وحافظ وأعاد إنتاج السمة الحقة لفلسفة أفلاطون. الفارابي بالنسبة لشتراوس أفلاطوني حقيقي لقيامه بإعطاء فلسفته شكلا خاصا مثله في ذلك مثل أفلاطون: شكل سياسي. وهذا الشكل السياسي هو المعنى الأول للفلسفة السياسية عند الفارابي، المعنى الأكثر مباشرة، لكنه ليس المعنى النهائي لها. إذ يفهم الفارابي هذا الشكل السياسي للفلسفة بوصفه معرفة للذات تقع ضمن فضاء الفلسفة السقراطية.

فلو كانت الفلسفة السقراطية هي تحويل للفلسفة ما قبل – السقراطية من ناحية، وفهم جديد للظاهرة الطبيعية والإنسانية من ناحية ثانية، أو بعبارة أخري إذا كانت فلسفة سقراط عن أو حول السياسي، فإن فلسفة الفارابي في رأي شتراوس أفلاطونية حقة بمعنى أنها فلسفة تدور حول الإنسان السياسي والمدينة السياسية. ومن خلال هذا المعنى الشامل للفلسفة السياسية يمكن للمرء أن يكشف معنى الكمال الإنساني والسعادة في عمل الفارابي، وأيضًا في عمل سلفه العظيم أفلاطون.

كما يتبع شتراوس موسى بن ميمون في النظر للفارابي بوصفه المعلم والمكتشف الأول للفلسفة الأفلاطونية بعد سيادة وهيمنة أديان الوحي على ظاهرة الاجتماع السياسي: إن اكتشاف الفلسفة السياسية الأفلاطونية والحفاظ عليها والتباري معها والطريقة التي يتم بها كل ذلك هي “الحقيقة” التي يعتقد شتراوس أنها متاحة فقط في بعض الكتب القديمة، وفي أعمال الفارابي على وجه الخصوص. وكتابنا هو إلقاء للضوء على طبيعة هذه الحقيقة الفلسفية، والطريقة التي وصلت بها إلى شتراوس، والحل الذي اكتشفه للمشكلة السياسية عند الفارابي. والصلة بين شتراوس والفارابي ذات أهمية قصوى لو كان الهدف هو فهم فلسفة شتراوس السياسية، ولا تنبع هذه الأهمية من كون الفارابي هو المعلم والمؤسس الأول لنوع خاص من الفلسفة السياسية فقط، ولكن أيضًا بسبب مبدأ شتراوس نفسه في القراءة الفلسفية، إذ يذهب إلى أن الفيلسوف الأفلاطوني الحق يخفي مذهبه في شروحه على أعمال الآخرين بدلًا من عرضها في الأعمال الموقعة باسمه.

يخلص الدكتور أحمد فاروق، أخذًا في اعتباره المحددات السالفة، من دراسته بمزاعم وتوقعات معتدلة، بمعنى أن ما هو معروض هنا ليس هو التأويل النهائي لا إلى شتراوس أو الفارابي أو الفلسفة السياسية الأفلاطونية. وما ندَّعيه وندافع عنه هو أنه بدراسة تأويل شتراوس للفارابي تصبح مشكلة تأويل شتراوس نفسه قابلة للرؤية على ضوء مختلف عن ذلك الذي يُشكِّل خلفية المناظرة الجارية الآن حول فلسفة شتراوس السياسية. أما عن مساهمة الدراسة في مبحث الفلسفة السياسية بشكل عام وفلسفة شتراوس السياسية على نحو خاص فتتمثل في حقيقة أنها المحاولة الأولى – في حدود علمي – للاشتباك بجدية مع تأويل شتراوس لفلسفة الفارابي السياسية: إنها المرة الأولي التي يحاول فيها كاتب إلقاء الضوء على دور مفهوم الشريعة أو الناموس في تشكل الفكر الفلسفي في عالم الإسلام والدور الذي لعبه المفهوم ذاته في إعادة اكتشاف شتراوس لطبيعة المشروع الفلسفي وما يميزه بين كل أشكال النشاط الإنساني وذلك بعد أن أدت الحداثة إلى نسيانه.

الكتاب يلقي الضوء أيضًا على مسألة الفلسفة السياسية بوصفها مساهمة الفيلسوف في حل المشكلة البشرية. إن دراسة شتراوس للفارابي لم تقدم له أدوات أو مناهج للتأويل فقط: بل نتج عنها العديد من الأفكار الجوهرية حول القضايا التي ظلت تشغل عقل شتراوس طوال مسيرته الفلسفية، تلك القضايا التي يُعالجها باعتبارها مسائل فرعية لقضية أساسية، قضية العلاقة بين الفلسفة والسياسة أو الفكر والمجتمع. وبعبارة أخرى فإن دراسة شتراوس لأفلاطونية الفارابي وفَّرت له منهجًا للتأويل، طريقة خاصة في التفلسف وفلسفة سياسية – فلسفة سياسية أفلاطونية!

بناءً على ما سبق، يقسَّم فاروق كتابه هذا إلى ستة فصول ومقدمة وخاتمة، عرض في المقدمة إشكالية الدراسة وطريقته في معالجتها، ودرس في الفصل الأول رؤية شتراوس لأزمة الحداثة السياسية بوصفها مشكلة فلسفية، وموضوع الفصل الثاني هو المواجهة مع هرمان كوهن على خلفية تأويل فلسفة موسى بن ميمون بوصفها فلسفة أفلاطونية وليست أرسطية؛ ويناقش الفصل الثالث التأويل السياسي الذي قدَّمه شتراوس لمذهب النبوة كما هو معروض في الفلسفة الإسلامية واليهودية.

أما في الفصل الرابع فقد درس تأثير الفارابي على شتراوس، وذلك فيما يخص رؤية الأول لفلسفة أفلاطون بوصفها فلسفة سياسية بالأساس تسعى لتناول مشكلات الوجود الإنساني بالجدية اللازمة مع إدراكها بأن من المستحيل على الفيلسوف تقديم رأى نهائي وقاطع عن طبيعة الأشياء والكون في بحث مازال جاريًا، وفي الفصل الخامس قام بدراسة الفلسفة السياسية الأفلاطونية أو ذلك الاتجاه الذي تبناه شتراوس بوصفه موقفًا فلسفيًّا شخصيًّا يسعى من خلاله إلى إعادة مشكلات الحياة الإنسانية وتحديدًا المشكلة السياسية على جدول أعمال البحث الفلسفي.

وفي الفصل السادس والأخير، انصب اهتمام الدكتور أحمد فاروق، على تحديد مفهوم شتراوس للسيرة أو الحياة الفلسفية والدور الذي باتت تلعبه السيرة الفلسفية في الخطاب الفلسفي المعاصر كما هو الحال عند الفيلسوف الفرنسي بيير هادو.

والحقيقة أن إعادة اكتشاف شتراوس للطريق نحو الفلسفة السياسية الأفلاطونية لم تكن ممكنة إلا انطلاقًا من الفلسفة الإسلامية بشكل عام وعلم السياسة الإسلامي بشكل خاص، فمن خلال الفحص التاريخي – النقدي للفلسفة السياسية الإسلامية، وباستخدام مفهوم الشريعة وأصله الأفلاطوني – مفهوم الناموس – في محاورة “القوانين”، استطاع شتراوس استرداد الفلسفة السياسية بعد أن بادت أو اختلت.

ويختم فاروق كتابه قائلا: تعزز غزوات شتراوس الغريبة للفلسفة السياسية الإسلامية واليهودية ما يمثل مساهمته الباقية للفلسفة السياسية، ويقصد بذلك تبصره بأن الفلسفة السياسية الكلاسيكية – الإطار الذي تقدمه – صالح لدراسة كل الظواهر السياسية في كل الحقب التاريخية، ولذلك السبب يجب على دارسي الفلسفة السياسية عدم الخلط بين “الحلول” التي تقدمها الفلسفة السياسية الكلاسيكية وبين المجال الذي يمكن أن يقدمه إطارها لجعل الظاهرة السياسية معقولة، وهذا هو ما يفسر لنا جسارة شتراوس على إعادة طرح سؤال النظام السياسي الفاضل بكل عمقه ليس فقط في مؤلفاته بل كذلك في محاضراته للطلبة والجمهور، إذ يبدأ شتراوس وينتهي دوما من ملاحظة أن سؤال الفلسفة السياسية الحقة هو سؤال المدينة الفاضلة، ويميز اقتراحه من أجل تجديد الفلسفة السياسية نفسه عن كل المحاولات المماثلة في الفلسفة السياسية المعاصرة، وأحد الأسباب الرئيسية وراء العداء تجاه شتراوس يرتبط برفضه إعطاء إجابة جاهزة لسؤال النظام السياسي الفاضل، إجابة ستتوافق فقط مع الوضع الراهن، وتعد الفلسفة السياسية وفقا لشتراوس – الخطاب والممارسة – من هذه الناحية مبحثًا لا راهني بامتياز.

ميدل إيست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى