الفنان والسياسة : النموذج السوري! (الحلقة الأولى : في جذور المسألة!)
دمشق ــ خاص بوابة الشرق الأوسط الجديدة
من الطبيعي أن يتحدث الفنان في السياسة، فالحديث في السياسة ليس حكرا على مجموعة من الناس نزلت بالسلة من السماء، وعلى هذه القاعدة من الطبيعي أن يكون هناك حق لجميع الناس بالمشاركة في الحياة السياسية : المثقف والعامل والفلاح والحطاب وكذلك الفنان والمصور وغير ذلك من أعضاء المجتمع .
ليس هذا فحسب ، فالفنان في مجمل التصنيف الثقافي والاجتماعي هو من النخبة، وربما يمكن تصنيف بعض الفنانين مع المثقفين الكبار نظرا لثقافتهم العالية التي تحاكي ثقافة المختصين بالفكر والسياسة، ونعرف جميعا أن فنانين عالميين أثروا في الحياة العامة ومنهم من أصبح رئيسا (رونالد ريغان مثلا)، وأيضا هناك مفكرون كبار أدلوا بدلوهم في مسألة الفن وعلم الجمال فبليخانوف أحد أشهر المفكرين الماركسيين الروس في أواخر القرن التاسع عشر وأبو الماركسية الروسية كتب أشهر المؤلفات في النقد والأدب والفن، وكذلك فعل لينين وتروتسكي، ويحصل ذلك في كل مكان لأن الفن أحد أدوات التواصل في المجتمع وأحد المعطيات الأساسية لصورته الحضارية .
عندما اندفعت الأحداث في سورية عام 2011 لم يكن الفنان السوري في صدارتها، وهي كما قال أدونيس، وهو يعبر عن رفضه لها، تحركات ضد نظام الحكم خرجت من المساجد، وكلنا يتذكر ظهيرة يوم الجمعة في كل أسبوع ، وما تنقله الأخبار عن تظاهرات في مناطق مختلفة من البلاد، في كل تلك الأنشطة المعارضة لم يكن الفنان موجودا فيها، وربما كان مستغربا بالنسبة للسوريين مشاهدة فنانين يخرجون من المساجد مع تلك التظاهرات، وخاصة أن الحركة الدينية السورية لم تشهد ظهور أسماء من هذا النوع ، اللهم إلا أحد المطربين الذي انكفأ عن الفن باتجاه الدين بعد جلسة مع الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي، ومع ذلك لم يظهر اسم ذلك الفنان كمشارك في التظاهرات .
ولكي نكون منصفين، فقد أثرّت تطورات الأحداث في مصر التي أطاحت بالرئيس الأسبق محمد حسني مبارك أثرّت بشكل مباشر على الشارع العربي، لأنها كانت مختلطة، ومنظمة وكان فيها مختلف شرائح المجتمع وفئاته إلى أن سحب منها هذا التنوع الشيخ القرضاوي في كلمته الشهيرة في ميدان التحرير. والغريب أن بعض الفنانين المصريين وقعوا في أول فخ يناقض مفهوم الانفتاح والديمقراطية الذي حملته تحركات ميدان التحرير، فسريعا ظهروا على شاشات الفضائيات ليعلنوا تأييدهم للثورة التي انطلقت ــ هذا رأيهم ــ لكن كان هناك تسابق، وخاصة بعد سقوط مبارك ــ للإعلان عن استنكار مواقف الفنانين الذين لم يؤيدوا الثورة ، فإذا لم يكن الفنان في صفوفها فهو في موقف لايحسد عليه !
والذين تلكؤوا في تأييد الثورة وجدوا أنفسهم في (خانة اليك)، كما يقال، واتهموا بالعمالة للنظام المخلوع، بل إن بعضهم بكى لأنه لم يؤيد الثورة، وصاحب الحظ هو من أيد ثورة نجحت خلال شهرين، فصار نجما من نوع جديد، نجما أضيفت لنجوميته الأولى نجومية الثورجية وخوض غمارها!
وفي السياق التاريخي للموضوع، ولأن انهيارات بُنى الأنظمة العربية تتالت مع موجة الربيع العربي في عامي 2010 و2011 بعد سقوط الرئيس زين العابدين بن علي إثر مأساة البوعزيزي التونسي الذي أحرق نفسه فأحرق نصف الوطن العربي ، ولأن هذه الانهيارات تتالت فقد سادت الذهنية العربية أن كل الأنظمة لابد ستتساقط !
هذا ممكن، فالثورات عادة ما تنتشر بالعدوى، ولكن ظهور الثورات ونجاحها يحتاج إلى شروط وظروف موضوعية، أهمها وصول التناقض في المجتمع إلى نقطة لايمكن الرجوع عنها، وعندما يحصل ذلك ينبغي أن تتوفر معطيات نجاح الثورة كي لاتسقط ..
عندنا، أي في سورية ، كان على السوريين بديهيا أن يطرحوا السؤال الشرعي : ونحن ؟!
نعم ، هذا السؤال كان شرعيا، لأن ((الربيع )) بدأ في تونس، وانتقل إلى اليمن ، ثم إلى ليبيا ، ثم إلى مصر، ثم كان يفترض أن يسأل السوري نفسه: هل نحن قادمون على هذا المد الجارف من الثورات التي أطلق عليها اسم الربيع ؟!
أتذكر هنا حوارا عبر إحدى المحطات، طرح فيه أحد المحللين وجهة نظر تقول: إن الشعب السوري لايريد ثورة حتى لو كان يعاني من مشكل كثيرة (على محطة bbc) ، لكن كلامه بدا نشازا لأن الناس كانت تتهيأ لشيء ما سورية، ولا تصدق أن المد يمكن أن يتجاوز سورية، بل إن نظيره في الحوار من لندن توعده بأن (الثورة) ستندلع في 15 آذار 2011 ، وهذه الاشارة تحمل مداليل مهمة الآن تتعلق بعفوية التحركات الشعبية العربية التي خرجت!
كان كل شيء يحصل سريعا، فالمسألة كانت مسألة أسابيع وشهور على الأكثر بين حريق وآخر، أي أن سورية لابد وأن تنالها طراطيش بأسرع وقت ممكن، وكان ندم البعض من الفنانين المصريين على عدم تأييدهم الثورة محفزا لعرب كثيرين على تأييد مايحصل في بلادهم دون السؤال عن المستقبل والفوضى والتي تقول إن (الطراطيش) لمن لم يكن يعرف سورية هي أنهار من الدم !
جاء دور سورية فعلا، ووجد أصحاب السؤال : ونحن؟! جوابا بأن سورية لن تستثنى (هناك من يقول إن كل ماحصل قبلها، كان تهيئة لها) ولكن كان عليهم أن يسألوا عدة أسئلة أخرى من تتعلق بظروف نجاح الثورات وتأييدها، ومن بين تلك الأسئلة :
ماهو مشروع الثورات التي تندلع سريعا؟!
وماهي القوى السياسية التي تقودها؟ وهل هي قوى بديلة قادرة على قيادة البلاد إلى مرحلة أفضل؟!
وما هي خلفيات هذه القوى السياسية، وإلى أين تتجه في سياساتها عندما يشتعل جسد المجتمع في التناقضات ويتحرر من كبته المزمن في مرحلة النظام المستهدف بالاسقاط؟!
ثم كان على الجميع أن يسألوا عن أميركا، وإسرائيل ، ومشاريع غربية تستهدف المنطقة، وفي ضوء ذلك يتخذ القرار ، ولو أن ذلك تم ، كانت النتيجة واضحة : هناك حسن وهناك أحسن ، هناك سيء وهناك أسؤا . هناك خطر وهناك أخطر.. إلى ما هنالك من المعطيات .
ولأن مصر تؤثر على الجميع ، تأثر الفنان العربي بالفنان المصري، وكان الفنان السوري في عداد المتأثرين، فارتفعت نسبة تأييد التحركات في سورية من قبل الفنانين، وعندما نعود إلى الفترة التي سبقت عام 2011 بعقد من الزمن، نلاحظ أن صوت الفنان كان مرتفعا بالانتقاد وكان يطالب بالانتقاد ،عبر أكثر من شكل :
أولا : بالتلميح والتصريح، وعندما نعود إلى البرامج التي انطلقت عبر الفضائيات العربية، ومن بينها البرنامج الأهم على هذا الصعيد ((قريب جدا)) الذي استضاف عددا مهما من الفنانين السوريين نلاحظ ارتفاع وتيرة النقد.
ثانيا : من خلال الدراما والسينما : ويمكن لنا جميع استرجاع أعمال على غاية الأهمية عكست سخط الفنان على الواقع الاجتماعي والسياسي، والغريب أن الجهات المعنية كانت تسمح لهذا النوع بالانتقاد بعكس موقفها من الصحافة والحياة الحزبية التي كانت بصدد التلاشي في العقود الأخيرة .
ثالثا : وجد الفنان السوري نفسه أمام السؤال الهم : وماذا عن سورية، وعلى ذلك ارتفعت نسبة المعارضين في الوسط الفني ، ثم كان الفنان القريبون من الوسط الفني الأكثر ميلا إلى الخوض في غمار المعارضة السياسية التي اندلعت في سورية ثم حملت السلاح وسال الدم .
وكان واضحا أن هؤلاء، وبعد سنوات من رصد التجربة نكتشف أن الفنانين السوريين الذين انضموا إلى صفوف المعارضة أعلنوا موقفا مؤيدا لتلك الحركات دون الإجابة على الأسئلة الضرورية التي أشرت إليها سابقا حول هوية التحركات وبرنامجها وشرعية هذا البرنامج في ظروفه وحوامله وأهدافه، وأيضا لم يكن أي منهم منتميا إلى حزب له كيان وبرنامج واضح وصريح!
((للبحث صلة ))
الحلقة الثانية : الفنان جمال سليمان نموذجا .