الفنان والسياسة (2) : جمال سليمان نموذجاً
من يدقق في المعلومات المتعلقة بالفنان السوري جمال سلمان يكتشف أنه من بيئة شعبية سورية، وأن السنة التي ولد فيها كان اسم (جمال) من أقرب الأسماء إلى الناس وكثيرون ممن ولدوا في الخمسينات وأوائل الستينات أطلق عليهم اسم (جمال) تقليدا لاسم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وجمال سليمان مواليد تلك الحقبة ، فقد ولد في دمشق عام 1959 في حي شعبي هو باب السريجة.
وبطبيعة الحال تركت تلك الحقبة آثارها على الكثيرين، فما أحبت أسرة من السوريين الرئيس عبد الناصر، إلا وأقحمت نفسها في السياسة تلقائيا ونما بعض أبنائها على تماس مع الأحداث وما تفرزه من مواقف!
وإذا كان كثيرون قد كتبوا عن جوانب الموهبة الفنية عند جمال سليمان، فإن قلة هي التي كتبت عن شخصيته السياسية والمعطيات التي أقحمته في السياسة وخاصة في حرب السنوات السبع التي جعلته واحدا من أبرز الشخصيات السياسية في المعارضة السورية بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع آرائه السياسية..
قبل عام 2011 لم يكن الفنان السوري ، بشكل عام، مشاركا بارزا في الحياة السياسية السورية رغم وجود نضج سياسي وفكري عند كثيرين، اللهم إلا من باب الانتساب إلى الحزب الحاكم، وهي آلية يمكن التعرف عليها حتى عند بعض أعتى الشخصيات المعارضة وربما المسلحة، فالانتساب إلى الحزب الحاكم (أي البعث) كان يأتي ميكانيكيا من خلال المدارس والشبيبة والوظائف وحتى الجيش، وهذا يعني وجود فنانين ينتمون إلى البعث ولاينتمون إلى النشاط السياسي.
تنامت مشاركة الفنانين السياسية بالرأي في أحداث السبعينات والثمانينات من القرن الماضي ومرد ذلك إلى انتشار حراك سياسي معارض على هامش صراع السلطة مع الإخوان المسلمين والطليعة المقاتلة ونشوب صراع دام هزّ مشاعر السوريين، وكان الوسط الفني السوري يتسع ويتنامى مع ظهور الدفعات الأولى من المعهد العالي للفنون المسرحية التي كان البارزون فيها يتماهون مع الكتاب والمثقفين البارزين المعروفين محليا وعربيا وكان بعضهم أساتذة في المعهد المذكور وكان بعضهم من أصحاب الطروحات السياسية الجديدة.
ويتذكر طلاب الدفعات الأولى الحوار السياسي الهام بين السلطة والمثقفين الذي لم يتكرر والذي أجرته الجبهة الوطنية مع نماذج منهم من خلال لجنة تطوير الجبهة في تلك الفترة والتي شكلت لتوسيع دائرة المعارضين للاخوان المسلمين !
مع ظهور الفضائيات وانتشار أطباق الساتلايت على أسطحة منازل السوريين في أواخر التسعينات وسقوط الاتحاد السوفييتي والمعسكر الاشتراكي وتراجع مفهوم حركات التحرر والأنظمة الوطنية عادت الحياة إلى الوسط الفني السوري وظهر بعضهم على تلك الفضائيات يدلون بآراء جريئة، ولم تكن تطرح عبر الإعلام المحلي، وكان الفنان جمال سليمان في تلك الفترة مقربا من السلطات رغم تصريحاته الدائمة بأفكار انفتاحية وديمقراطية ، ولم تكن أفكاره تعود عليه بردود فعل غاضبة، لأن كثيرين مثله كانوا يتحدثون بمثل تلك الأفكار وتمر طروحاتهم مرور الكرام.
وعمليا كانت الدراما التلفزيونية ، مثلها مثل السينما من قبل قد نالت الحظوة عند الجهات الأمنية والسياسية، ولم يكن تجرأ موضوعاتها وفنانيها على الانتقاد يثير السخط عليهم، ويرى كثيرون ممن رصدوا تلك المرحلة أن الدراما السورية والفن والمسرح مارسوا نقدا سياسيا أجرأ بألف مرة مما طرحته الأحزاب التاريخية الموجودة في سورية والتي تشارك في الائتلاف الذي يحكم البلاد ويقوده حزب البعث .
كان الفنان جمال سليمان يحث الخطا على متابعة دراسته الأكاديمية خارج البلاد، ولم يمنعه ذلك من تنشيط دوره الثقافي والفني، فما أن حصل على إجازة من المعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق حتى وجدناه يتابع دراساته العليا فيحصل على درجة الماجيستير من قسم اﻹخراج المسرحي بجامعة ليدز في عام 1988، وكانت سورية في تلك الفترة تعد العدة لنهضتها الدرامية الفنية التي وصلت إلى ذروتها في العقد التالي ..
شارك الفنان جمال سليمان بأدوار على غاية الأهمية، وصنع نجومية حصنته كثيرا فيما بعد، فإذا بنا نشاهده في أعمال درامية كصلاح الدين الأيوبي، وربيع قرطبة، وملوك الطوائف، ثم قدمته (التغريبة الفلسطينية) بشخصية حسده عليها الكثيرون!
وفيما بعد كان ذهاب الفنان جمال سليمان إلى مصرا عاملا مهما في تحوله إلى نجم عربي كما هو في مسلسل (حدائق الشيطان) ، وكما نعلم كانت مصر في ذلك الوقت تستعيد عافيتها لتتحول من جديد إلى عاصمة الفن العربي ، ومع هذا التحول وخلال السنوات الخمس التالية دخل مشروع (الربيع العربي) من شمال أفريقيا العربية (تونس)، وسريعا حط في مصر، وفي مصر وقع الفنانون المصريون في عشق ثورة ميدان التحرير وتصدروا الشاشات في تأييدهم لها ، وكان ذلك عاملا محرضا لكثيرين من الفنانين السوريين لسلوك موقف مماثل في بلادهم عندما اندلعت الأحداث عام 2011..
وفي سجل اليوميات التي مرت في بداية الأحداث لاحظنا بروزا لأسماء مهمة في الوسط الفنان شكلت اصطفافا واضحا في صفوف الداعين للتغيير، وكان بينهم مخرجون وكتاب دراما ونجوم من مختلف السويات ، ونتذكر سميح شقير وفارس الحلو ومحمد آله رشي وعبد الحكيم قطيفان وعزة البحرة ومكسيم خليل ومن المخرجين نتذكر هيثم حقي ونبيل المالح ومأمون البني وغيرهم ..
وعمليا لم يطرح هؤلاء الفنانون الأسئلة المطلوبة التي تحتاج إلى أجوبة قبل تأييد أي نوع من الحراك الاجتماعي الذي يحمل اسم ثورة ، فلم يعرف هؤلاء حوامل المشروع وأهدافه وأثره على المجتمع السوري كما اتضحت اليوم من خراب ودمار وموت ، وأيضا لم ينخرط أيا منهم في تكتل سياسي أو تجمع أو منصة كما فعل بشكل واضح ومباشر الفنان جمال سليمان..
بالنسبة للفنان جمال سليمان شكل موقفا معارضا من داخل البلاد ثم من خارج البلاد، ورغم أنه نفى في حوار معي أن تكون المسألة مجرد حرد سخيف، وقال كلاما مهما أتحفظ على نشره الآن ، لكنه قال حرفيا : ” أريد ان أقول لم يكن الابتعاد خياري بل شئ أجبرت عليه، لا لشيء، إلا لأنني قلت : أمامنا طريقان لا ثالث لهما، أما التغيير الديموقراطي الوطني و العميق و الحقيقي الذي يوحدنا جميعا وراء هذا المشروع و يغلق الأبواب في وجه مخطط حقير لتدمير سوريا، و أما صدام يفتح الأبواب مشرعة لكل لاحتمالات السيئة. أظن أن من قال ذلك كان على صواب. للأسف الشديد!” هذا ما قاله لي.
من المهم القول الآن إن الفنان جمال سليمان واحد من الأعضاء الفاعلين في منصة القاهرة المعارضة، وقد لاحظنا نشاطه المكثف إبان الجولات الأخيرة من الاجتماعات في الرياض وجنيف، أي أنه يمارس السياسة فعلا، بل و يؤدي دورا سياسيا بمهارة، سواء اتفقت معه أو اختلفت، لكن هل تسرقه السياسة من الفن ، كما يتكهن بعض قارئي الأبراج حيث يدخل في المشروع السياسي للحل في سوري في موقع في بنية الدولة، أم أن شخصيات التاريخ والحياة اليومية في الدراما ستمسك بيده جيدا لأن لعبة السياسة لاتؤدي إلى مسالك الأمان كما قالت لي أمي ذات يوم !