الفن والسياسة توأمان غير سياميان
ثمة ” رأي ثالث”، وقد يكون حاسما، في قضية انقسام جمهور النقاد والمتابعين بين مؤيدين لتكريم السينمائي الفرنسي ذي الأصول الجزائرية كلود لولوش، في مهرجان القاهرة السينمائي القادم، وبين رافضين لهذا التكريم. وكل ذلك على خلفية القول بتأييد لولوش وتحمسه للسياسة الإسرائيلية. إنه رأي يجمع بين متناقضين في ظاهره، لكنه يتضمن حقيقة ينبغي أن تقال على وجهين: الأول هو إدانة الفنان لولوش على هذه المغازلة الصريحة لسياسة دولة قائمة على التمييز العنصري، وعدم احترامه لموهبته التي كان الأجدر بها أن تبقى في منأى عن السياسة وتقلباتها. الوجه الثاني في هذا “الرأي الثالث” هو إدانة الذين استعجلوا في الإدانة والمناداة بإقصاء الفنان الفرنسي من قائمة المكرمين في المهرجان لأسباب تتعلق برأي سياسي قد يتحمل الريبة والالتباس والأخذ على الشكوك.
ما تقدم يعكس كيف أن السياسة ترخي بظلالها في الشأن الثقافي ولا يمكن إقصاؤها أو تجاهلها حين يتعلق الأمر بقضايا جوهرية ذات بعد حقوقي وإنساني، أما السياسة بمفهومها الحزبي على الصعيد الداخلي، فإنها تصبح مسممة للأجواء حيثما اتجهت، وذلك لما يعلق بها من مصالح فئوية ضيقة، تناقض القيم الكبرى التي ينشدها الفن والفنانون. وإذا أسلمنا القول بأن من حق المبدعين والفنانين والمحسوبين على الشأن الفكري والثقافي أن ينخرطوا في عالم السياسة أسوة بأسماء قد تكون ناجحة في أوروبا وأميركا فإن المناخات السياسية والحزبية في العالم العربي لا تجعل هذا الأمر ممكنا أو صحيا.
معطيات الواقع المعاش في غالبية البلاد العربية لا تشجع على خوض التجربة الانتخابية أو التنظم الحزبي، فما بالك بالتحمس لمناقشة فكرة انخراط الفنان في الحياة السياسية؟ عندما يكون المرشح فاسدا والناخب مرتشيا والأحزاب مصالح مالية وولاءات عشائرية وطائفية، يصبح دخول الفنان معترك السياسة إما ضربا من السوريالية أو تشكيكا في مؤهلات هذا الفنان ونواياه من أصلها.. إنه ـ بلا شك ـ بوق دعاية لطائفة سياسية ضد أخرى كما هو الحال في برلمانات وأحزاب كتونس ومصر على سبيل المثال.
أن تكون فنانا هو أن تكون ـ وبالضرورة ـ على يسار ما يطرحه السياسيون كجماعة يبررون عجزهم عن التوق للمطلق عبر الاختفاء خلف الشعار القائل بأن السياسة هي فن الممكن، ذلك أن الاستكانة للواقع الذي تقبل بأن يملأ عليك هو شروطه، أمر لا وجود له في قاموس المبدع الحقيقي.
الفنانون الذين قادهم الهوس بالنجومية نحو الارتماء في أحضان الأحزاب كي يكونوا لها أبواق تمجيد، انتهى بهم المطاف إلى السقوط المدوي والفشل الذريع بل ومنهم من يُشكك في موهبته الإبداعية من أساسها، ذلك أن المبدع هو من ينتمي للوجدان الجماعي برمته وليس لفئة حزبية ضيقة.
غالبية الفنانين الذين مارسوا الفعل السياسي عبر التاريخ القديم والحديث، لم يعودوا فنانين.. هذا في صورة ” نجاحهم ” المزعوم في الحقل السياسي، أما مصير الكثير منهم فكان مثل قصة الخفاش الذي أنكرته الثدييات لأنه يمتلك جناحين ورفضته الطيور لأنه يمتلك ثديين، إذ انتهى به الأمر إلى كائن لا يتنقل إلا في الليل ولا ينام إلا مقلوب الرأس ومتأرجحا بين السماء والأرض.
لطالما نبه الدارسون عبر التاريخ من اقتراب المبدعين صوب السياسة، وشبهوا ذلك برفرفة الفراشة حول النار، وغالبا ما تكون نهاية الفنان هي الاحتراق بينما تستمر ألسنة النار بالتهام بعضها البعض.
الفن والسياسة توأمان، لكنهما ليس سياميان، ذلك أن العلاقة موجودة منذ أيام أفلاطون، ومع مرور الزمن أصبح الفن تابعا للكنيسة التي سيطرت على أوروبا، واستخدمته في إيصال رسالتها الدينية، لكن الانقلاب في العلاقة بين الفن والسياسة بدأ مع اندلاع الثورة الفرنسية، حيث أصبح الفن يجسد روح الثورة الجديدة بدلا من أن يكون مدافعا عن سلطة الملك.
وظيفة الفن هي التعبير عن ملكة الحياة في الإنسان الحالم بالأجمل والأنبل على مر العصور. وأبرز ما يميز الفن هو امتلاك القدرة على الاستحواذ على قلوب الناس، ولهذا السبب بالذات، تسعى الحكومات لخطب ود الفنانين، لكن هذا لا يعني بالضرورة أن توجههم نحو إرسال رسائل سياسية مباشرة، ولكن مجرد اقترابها من الفنان يسهم في اقتراب جمهوره منها.
الفن يخدم السياسة ويهذبها، لكن الأخيرة تفسده وتفقده بريقه إن حاولت توجيهه نحو مآربها، لذلك وجب على المبدعين والفنانين أن يتفهموا هذه الحقيقة، ويبنوا على أساسها معادلة تسمح لهم بالاقتراب من هموم الناس التي تنشغل بها السياسة، دون الاسفاف والركون إلى الشعاراتية والصراخ السياسي، الأمر الذي يفقد خطابهم قيمته الجمالية.