الفن يصنعه الظرفاء دائما

 

”  مخرج فلسطيني لكن أفلامه طريفة”.. بهذه العبارة عرّف الممثّل غايل غارثيا برنال، المخرج إيليا سليمان، وهو يقدمه لإحدى المنتجات النيويوركيات في مشهد من فيلم ” لا بد أنها الجنة” للمخرج نفسه، والذي نال، أخيرا، جائزة النقاد في مهرجان كان.

طريقة التقديم هذه، تحيل إلى حقيقة مفادها أنّ غالبية المبدعين “الملتزمين بقضايا شعوبهم”، قد عوّدوا الناس على العبوس من خلال ما يثيرونه من استدرار مشاعر الحزن والعطف والغضب عبر مشاهد العنف والقتل، فكأنما “حرام علينا” أن نضحك.

الفلسطيني إيليا سليمان، كسر القاعدة في جميع الأفلام التي أنجزها، وحذا حذو مبدعين كبار من أمثال شارلي شابلن ووودي آلن، مقتنعا بأن السخرية من الذات، هي أمضى الأسلحة في مواجهة الألم والنسيان.. وهو ما لم تهتد إليه بعد، فئات عريضة من صناع الدراما في العالم العربي، متوهمين، جميعهم، بأن المناديل المبللة بالدموع هي أفضل الرايات الحاملة للقضايا العادلة.

نقاد السينما في الغرب تفطنوا إلى بلاغة سخرية هذا الناصري التائه في منافيه، وأسئلته الطفولية المضحكة والمربكة في شريطه ” لا بد أنها الجنة”، فتوجوه بجائزتهم، إيمانا منهم بأن هذا الرجل ” خطير”، ويستطيع أن يقدّم لقضية شعبه ما لم تقدمه المراثي واللطميات، وغيرها من مفردات قاموس المظلوميات.. أليس هذا ما يفعله كوميديو ما بات يعرف بموجة ” ليمور جويف” (الطرافة اليهودية) في تناولها للهولوكوست بألمانيا النازية؟

إيليا سليمان، لم يفهم اللعبة بالمنظور التسويقي فحسب، بل هذه طبيعته المتأصلة فيه كفنان ينتصر للحياة، ويؤمن بأن الضحك جوّاب آفاق، حمّال أوجه، وسفير بهجة في رسالة لا يمكن أن يحملها ساعي بريد عبوس أو ” غراب زاجل”.

إيليا لم يضع رسالة شعبه في الصندوق الخطأ كما يفعل الثوريون المتشنجون في العالم العربي، فلقد بادر بالسخرية من نفسه كي لا يسخر منه العالم، ولا يستبقه إلى ذلك أحد، واحتفى بهويته دون أن يكون شيطانا، ولا ملاكا، بل ضاحكا من سخرية الأقدار كما في المشهد الذي يخبر فيه سائق التاكسي الأسود بنيويورك، زوجته عبر الهاتف، في فرح عارم، بأن ” زبونه فلسطيني”، وكأنه عثر على هندي أحمر.

قد ينسى جمهور السينما كل مشاهد الدمار التي ارتبطت بالقضية الفلسطينية، لكنه من الصعب أن ينسى في شريط سليمان، ذلك المشهد الذي يتكئ فيه رجل على البار في نيويورك، ويقول بانتشاء غريب ” الجميع يسكر لكي ينسى، باستثناء الفلسطينيين، يسكرون ليتذكّروا”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى