كتب

‘القاتل الأعمى’ ملحمة إنسانية متعددة الطبقات

محمد الحمامصي

الرواية تشكل أهم وأبرز أعمال الكندية مارغريت آتوود، اذ تتسم بتنوع غير عادي وامتداد زمني أيضا غير عادي مع إضافة روح الدعابة الساخرة.

 

تشكل رواية “القاتل الأعمى” أهم وأبرز أعمال الروائية والشاعرة الكندية مارغريت آتوود، فهي لم تكتب قط بمثل هذا القدر من البراعة والتنوع كما فعلت في هذه الرواية المتعددة الأبعاد. فمع إضافة روح الدعابة الساخرة وتصوير الشخصيات والتعقيدات الغامضة التي تحيط بها، فإن هذه الرواية تتسم بتنوع غير عادي وامتداد زمني أيضا غير عادي. فباعتبارها رواية تاريخية تدور أحداثها في القرن العشرين بأكمله، حيث تغطي العديد من الأحداث العالمية التاريخية المهمة. وأهمها نمو الإنتاج الصناعي والتصنيع الضخم في كندا، والحرب العالمية الأولى، وصعود الشيوعية، والكساد الأعظم، والحرب الأهلية الإسبانية، والحرب العالمية الثانية.

وبصرف النظر عن هذه الأحداث الكبرى، تتتبع الرواية التي ترجمتها عزة مازن وصدرت عن المركز القومي للترجمة أيضًا تحولات تاريخية أكثر دقة، وأبرزها ما يتعلق بالوضع المتغير وحقوق المرأة. حيث تلاحظ بطلة الرواية وراويتها إيريس أنه في مطلع القرن العشرين، لم يكن لدى النساء سوى القليل من الكينونة الخاصة بهن. كان أي شيء يمتلكنه من الناحية الفنية ملكًا لوالدهن أو أزواجهن، وغالبًا ما لم يكن لديهن الكثير من الاختيار في من يتزوجن. علاوة على ذلك، غالبًا ما وجدت الفنانات والكاتبات (مثل إيريس) أن أعمالهن كانت تُعامل باستخفاف. وكما توضح الرواية، تغيرت الأمور نتيجة للحركات النسوية في الستينيات والسبعينيات. ومن بين أمور أخرى، ناضلت هذه الحركة من أجل حق المرأة في الوجود بشكل مستقل عن الزواج، ودافعت عن أعمال المؤلفات المهملات، وهذا هو السبب في أن الباحثين النسويين يظهرون مثل هذا الاهتمام بالرواية داخل الرواية “القاتل الأعمى”.

في مقدمتها للرواية ترى المترجمة أن الرواية تعد ملحمة إنسانية بديعة، في مستهلها تسترجع إيريس تشاس ذكرياتها عن حادثة سقوط أختها لورا بسيارتها من فوق الجسر عام 1945. يتبعها تقرير صحفي عن الحادثة. ولكن بمجرد أن يستعد القارئ للاستغراق في قصة لورا، تنقله أتوود إلى رواية أخرى بعنوان “القاتل الأعمى” متضمنة في الرواية الأساسية، وهي من نوع الخيال العلمي يرويها عاشقان في حجرات معتمة بالشوارع الخلفية. وعندما نعود إلى إيريس يكون عام 1947 في مقال صحفي عن عن اكتشاف قارب بحري يحمل جثة زوجها المتوفي، رجل الصناعة المعروف ريتشارد جريفون. وبذلك تلقي أتوود في مستهل الرواية بخيوط السرد الرئيسية لتشحذ ذهن القارئ للبحث عن العلاقة بينها. “القاتل الأعمي” رواية متعددة الطبقات بسخاء وتميز، تتشابك فيها الخيوط والأحداث متتابعة في سرعة، وبمجرد أن تتلاقى الأحداث والخطوط يكتشف القارئ أن ما ترويه أتودد ليس ما يبدو عليه ولكنه يفوق ذلك بكثير.

تتذكر بطلة الرواية إيريس تشاس جريفون، التي تزوجت في الثامنة عشرة من عمرها من رجل صناعي ثري، ولكنها الآن فقيرة وهي في الثانية والثمانين من عمرها، حياتها البعيدة كل البعد عن المثالية، والأحداث التي أدت إلى وفاة شقيقتها لورا، نشأت إيريس، وشقيقتها لورا، في مجتمع ميسور الحال ولكن بلا أم في بلدة صغيرة في جنوب أونتاريو. وباعتبارها امرأة عجوز، تتذكر إيريس أحداث وعلاقات طفولتها وشبابها ومنتصف عمرها، بما في ذلك زواجها غير السعيد من رجل الأعمال في تورنتو ريتشارد جريفون.

يفتح انتحار لورا الرواية والتي تم تسميتها كمؤلفة الرواية الموجودة داخل الرواية، رواية داخل رواية، وهي رواية “القاتل الأعمى”، وهي الرواية المفتاح المنسوبة إلى لورا التي قدمت نفسها كروائية لأول مرة بروايتها المنشورة بعد حادثة انتحارها ونشرتها إيريس. تدور أحداثها حول أليكس توماس، مؤلف خيال علمي سياسي راديكالي متعاطف مع الشيوعية، وله علاقة غامضة مع الأختين. تحتوي هذه القصة المضمنة نفسها على حكاية ثالثة، وهي قصة خيال علمي يرويها نظير أليكس الخيالي لبطل الرواية الثانية، والذي يُعتقد أنه نظير لورا الخيالي. هذه القصة أكسبت لورا ليس فقط الشهرة ولكن أيضًا العبادة المخلصة، والعلاقة المحظورة التي كانت تشكل وقتها في ثلاثينيات القرن العشرين علاقة محفوفة بالمخاطر كونها تجمع بين شابة ثرية وثائر سياسي. أثناء لقاءاتهما السرية في غرف مستأجرة، يبتكر العاشقان خيالًا شعبيًا تدور أحداثه على كوكب بعيد يدعى ديكرون يحكمه طاغية، تدور أحداث القصة الخيالية عبر الحب والتضحية والخيانة، كما يحدث في القصة الحقيقية؛ في حين تقترب الأحداث في كليهما من الحرب والكارثة. إنها رواية مليئة بالفكاهة العميقة والدراما المظلمة التي تتجمع معًا في نهاية رائعة ومذهلة، وهي رواية غنائية وصادمة ومرعبة ومقنعة.

تتخذ الرواية شكل كشف تدريجي يلقي الضوء على شباب إيريس وشيخوختها قبل الوصول إلى الأحداث المحورية في حياتها وحياتها مع شقيقتها لورا في وقت الحرب العالمية الثانية. تعيش لورا وإيريس في منزل يُدعى أفيليون. تموت والدتهما في سن مبكرة تاركة ريني، القائمة على الرعاية، لتتحمل مسؤولية الفتيات. ومع تطور أحداث الرواية، وتصبح الرواية داخل الرواية مستوحاة بشكل واضح من أحداث حقيقية، يتبين أن إيريس، وليس لورا، هي المؤلفة والبطلة الحقيقية للرواية داخل الرواية. على الرغم من الاعتقاد لفترة طويلة أن الرواية داخل الرواية مستوحاة من قصة حب لورا مع أليكس، فقد تم الكشف عن أن “القاتل الأعمى” كتبته إيريس بناءً على علاقتها خارج نطاق الزواج مع أليكس. نشرت إيريس العمل لاحقًا باسم لورا بعد أن انتحرت لورا عند علمها بوفاة أليكس في الحرب.

بعد انتحار لورا، تدرك إيريس من خلال مذكرات شقيقتها أن زوجها ريتشارد جريفون كان يغتصب لورا طوال فترة زواجهما، ويبتزها لتخضع له من خلال التهديد بتسليم أليكس للسلطات. تأخذ إيريس ابنتها الصغيرة إيمي وتهرب من منزلها، وتهدد بالكشف عن أن ريتشارد حمل لورا وأجبرها على الإجهاض. هذه الخطوة تبعد إيريس عن آخر الأشخاص الذين كانوا يدعمونها، وتخلق مرارة بينها وبين ابنتها إيمي. تخدع إيريس ريتشارد وتجعله يعتقد أن لورا هي التي كانت على علاقة بأليكس توماس، مما يدفعه إلى الانتحار. تنتهي الرواية بوفاة إيريس، تاركة الحقيقة ليتم اكتشافها في سيرتها الذاتية غير المنشورة التي تتركها لحفيدتها سابرينا جريفون الوحيدة الباقية على قيد الحياة.

يذكر أن مارغريت أتود رسخت مكانتها الأدبية في الأدب الكندي المعاصر، كروائية وكاتبة قصة قصيرة وشاعرة، وناقدة أدبية، بالإضافة إلى إسهاماتها في الكتابة للأطفال. وصلت أعمالها منذ بدأت النشر عام 1961 إلى أكثر من ثلاثين كتابا، ترجم كثير منها إلى أكثر من 35 لغة عالمية. كما أدرجت ضمن مناهج دراسة الأدب في المدارس والجامعات، وأصبحت مادة للحوارات الأدبية والمراجعات النقدية وأبحاث التخرج في أقسام الأدب حول العالم. وحازت العديد من الجوائز الأدبية المرموقة. ومنها جائزة البوكر الأدبية عام 2000 عن روايتها “القاتل الأعمى”.

ميدل إيست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى