القاهرة التاريخية دليل قاطع على عظمة دور نساء العصر المملوكي (محمد شعبان)

 

محمد شعبان

الكسباني: السلاطين شيدوا الآثار للنساء عرفانًا بدورهن، ومرسي: عصر الدولة الوسطى شهد تسامحًا غير محدود.

كثير ما تثبت رؤية العين كذب بعض الكتابات والمخطوطات، فإنه في الوقت الذي تنقل فيه آثار وكتابات بعض الرحالة من المستشرقين أن حكام دولة المماليك، وما قبلها من دويلات توالت على حكم مصر امتهنوا المرأة وتكاتفوا على دحض حقوقها، تؤكد الآثار الباقية بالقاهرة التاريخية على عكس هذه المزاعم، فالواقع يثبت بما لا يترك شكًا أن المرأة استطاعت أن تنافس الرجل بما مارسته من دور فعال وملموس.. وربما يشهد على ذلك الأسبلة والمدارس والأثرية الباقية في مختلف البقاع.
يرى د. مختار الكسباني، أستاذ الآثار الإسلامية بجامعة القاهرة، أن الرحالة والمستشرقين في القرون الوسطى نقلوا صورة مغلوطة عن أوضاع المرأة في المجتمع المصري والشرقي عمومًا، فصوروها كملكية يتم تداولها، مكانها الأساسي هو "الحرملك"، حيث جارية لا حول لها ولا قوة، وتناسى هؤلاء المستشرقون ما للمرأة من دور في هذا المجتمع.. فلولا "شجرة الدر" التي تسلطنت بعد رحيل زوجها الصالح أيوب وكتمانها نبأ وفاته، بينما الجيش المصري يحارب الغزوة الصليبية السابعة بقيادة لويس التاسع الفرنسي عند المنصورة لانهزم الجيش واستولى لويس على البلاد.
ويوضح د. الكسباني أن هناك نساء لعبن أدوارًا قوية جدًّا، ولم يصلن إلى الحكم مثل أم الملك الناصر محمد بن قلاوون، حيث حمته من القتل حين دبر المماليك ضده انقلابًا مفاجئًا، وهو ما فعلته أم السلطان الأشرف شعبان نفسه بعد ذلك بسنوات، ومن هنا لم يجد السلاطين المماليك أي حرج أو غضاضة في أن يشيدوا لهؤلاء النساء آثارًا تحمل أسماءهن حتى وإن كان بعضهن في الأصل من الجواري قبل عتقهن، ومن هنا تزهو القاهرة ربما أكثر من أية عاصمة شرقية أخرى بالآثار الجليلة التي تحمل أسماء سيدات من هذا العصر.
 
• تسامح كبير
ويقول د. محمود مرسي، أستاذ الآثار الإسلامية بجامعة القاهرة: إن المجتمع المصري خلال العصور الوسطى شهد تسامحًا غير محدود في قضية التعامل مع المرأة، حيث أعطاها كل الحقوق عدا حق الحكم، ولم ينظر إليها نظرة تفرقة، ولذلك لم يجد المجتمع عيبًا في أن يكرس آثارًا عظيمة للنساء، على اختلاف فئاتهن فمثلما حملت المساجد والأسبلة والقباب والأربطة أسماء الرجال فإنها حملت كذلك أسماء النساء.
ويشير د. مرسي إلى أن قبة الملكة "شجرة الدر" والتي تعد أشهر ملكات مصر في التاريخ الوسيط، وقد أسست هذه القبة في عام 1250، وتقع بشارع الخليفة ومحراب ضريحها له أهمية أثرية كبرى، فهو أول محراب في مصر يحتوي على فسيفساء مذهبة عبارة عن شجرة ذات فروع متشعبة.
ويذكر أن شجرة الدر تولت سلطنة مصر عقب وفاة زوجها الملك الأيوبي الصالح نجم الدين أيوب لبضعة أشهر أثبتت خلالها أنها كانت أهلًا لهذه السلطنة، ولقبت بـ "عصمة الدنيا والدين أم خليل المستعصمية" حتى قتلها المماليك شر قتلة ليخلو الطريق لسلطانهم "أيبك" التركماني، وألقوا بجثتها في أحد آبار قلعة الجبل بعد أن قام الجواري بقتلها رميًا بالقباقيب.. وقد دفنت شجرة الدر بقبتها بعد أن ظلت بالبئر طيلة ثلاثة أيام.
ويضيف: أما السلطان المملوكي الأشرف شعبان فقد شيد لزوجته "خوند طولبية" قبة وضريحًا سنة 1364 في صحراء قرافة المماليك الشرقية بالدراسة، كما بني لأمه "خوند بركة" مدرسة باسمها في شارع باب الوزير بالدرب الأحمر عام 1368، كذلك بني السلطان الأشرف برسباي الجركي قبة وضريحًا يحملان اسم والدته "خوند خديجة" عام 1440 في منطقة منشية ناصر، كما بني السلطان الأشرف إينال الجركسي لزوجته رباطًا باسمها "خوند زينب" في منطقة الخرنفش بالجمالية، والرباط هو مكان مخصص لأهل الحرب والجهاد ممن لا يملكون شيئًا يعيشون منه وينفق عليهم السلطان.
ويوضح د. مرسي: بنى السلطان المنصور قلاوون قبة لوالدته فاطمة خانون بحي الخليفة، أما السلطان الناصر محمد بن قلاوون فقد شيد لإحدى زوجاته خانقاة، وكانت تدعي "الخوند الكبرى أم أتوك" وكانت مثقفة وجميلة وقوية الشخصية، كما بنى محمد بن قلاوون مدرسة لابنته الأمير "تتر الحجازية" عام 1306ـ، وهو موقعها الآن بمنطقة الجمالية، كما أحب محمد بن قلاوون مربيته "الست حدق" الشهيرة بـ "مسكة" وتعلق بها كأمه فشيد جامعًا باسمها جامع "الست مسكة" بحي السيدة زينب.
ويشير د. مرسي إلى أنه رغم قلة شأن الست مسكة الاجتماعية، إلا أنها استطاعت أن تلعب دورًا مهمًا في حياة الناصر محمد بن قلاوون في حياته الخاصة والعامة، فقد كانت هي الجندي الذي يشد من أزره في كل النوائب والشدائد التي توالت عليه من خلع وتشريد، حيث كافحت باستماتة من أجل إعادة الناصر إلى عرش السلطنة، وعندما تقدمت السن بالست مسكة صارت "قهرمانة" لقصر السلطان، حيث كان يقتدي برأيها في عمل الأعراس السلطانية ومهمات الأعياد والمواسم وترتيب شئون حريم السلطان، وبالفعل استطاعت أن تجمع ثروة كبيرة من الأموال والهدايا، التي كان يغدقها عليها السلطان وحاشيته؛ طمعًا في التقرب من السلطان أو رغبة في قضاء حاجاتهم عنده، وكما تفانت "مسكة" في خدمة الناصر محمد فقد حفظت له الود في أبنائه، فعندما أراد المماليك خلع السلطان حسن قبضوا عليه وسجنوه، إلا أنها اختارت أن تكون بجواره في السجن لخدمته، وبالفعل بقيت معه إلى أن توفيت في السجن معه.

• سيدات ثريات
أما د. أحمد الزيات عضو اللجنة الدائمة للآثار بالمجلس الأعلى للآثار: يؤكد أن تشييد القباب والأضرحة والبيوت لم يقتصر فقط على السيدات، اللائي تنتمين إلى أسرة الحاكم أو السلطان فقط، بل كان هناك عدد من الأماكن التي كانت تنسب إلى السيدات الأثرياء مثل بيت آمنة بنت سالم الذي أنشأه محمد سالم الجزار عام 1540، ويعرف بمنزل "الكريتلية" ويقع بجوار جامع أحمد بن طولون بحي السيدة زينب.. وآمنة بنت سالم من أصل كريتلي (أي من جزيرة كريت)، وكانت تعد من أهم أثرياء الحي الذي كانت تقيم فيه.. وهناك أيضًا سبيل الست "جلسن البيضا" في السيدة زينب، وهو أول سبيل عثماني باقٍ في القاهرة تم إنشاؤه لامرأة.. وهناك سبيل "الست صالحة" المنشأ عام 1741 ويقع الآن بميدان السيدة زينب.. أما السيدة "نفيسة البيضا" فلها أثران مهمان يحملان اسمها هما سبيل ووكالة يقعان في شارع المعز لدين الله الفاطمي.. وقد كانت "نفيسة" زوجة "مراد بك" الذي كان يتنازع السلطة مع "إبراهيم بك" حين احتلت قوات نابليون بونابرت مصر عام 1798 .
ويشير الزيات إلى أن منزل بيت "الست وسيلة" المنشأ عام 1664، ويقع بحارة العتبة خلف الجامع الأزهري.. وقد أنشأ هذا البيت الحاج عبدالحق محمد الكناني.. كما يوجد "سبيل أم عباس" الذي أنشأته "زبيدة قادن" والدة عباس باشا ابن عم الخديوي إسماعيل عام 1867، وهو سبيل مشهور بجمال زخارفه، ويقع في شارع الصليبة بحي السيدة زينب، كما يوجد منزل "زينب خاتون" الذي أنشئ في عهد السلطان المملوكي الجركسي "الأشرف قايتباي" سنة 1470، ويقع خلف الأزهر الشريف.. وقد عرف هذا البيت باسم آخر سيدة سكنته وهي السيدة "زينب خاتون" التي توفيت سنة 1712. (خدمة وكالة الصحافة العربية).

 

ميدل ايست أونلاين

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى