«القصيدة الدمشقية» مغلقة بالشمع الأحمر!
«محافظة دمشق اعتقلت عصفورين ما زالا داخل الغاليري وأخاف عليهما أن يموتا عطشاً وجوعاً تحت لهيب آب». هذا ما يقول حكمت داوود في معرض حديثه لـ «السفير» بعد إغلاق السلطات المختصة لـ «القصيدة الدمشقية»، المكان الواقع بالقرب من قوس باب شرقي في البلدة القديمة، والذي شهد العديد من الفعاليات الثقافية والفنيّة اللافتة: «نقوم بجهد فردي أنا وأصدقاء «القصيدة»، جهد ربما لا تستطيع أن تقوم به وزارة بأكملها»؛ يضيف صاحب الحانة الثقافية شارحاً قصته مع شرطة المحافظة التي لم تترك له مجالاً حتى لإخراج أوراق التراخيص الخاصة بصالته الصغيرة التي لا تتعدى مساحتها «50 م مربعاً» كما يخبرنا: «عند الساعة الحادية عشرة من صباح 18 آب الجاري جاءت دورية تابعة لمحافظة دمشق وختمت المكان بالشمع الأحمر، بحجة عدم وجود ترخيص برنامج فني، ومع أننا لا نختص بهذا النوع من النشاط في الغاليري الذي تغلب عليها السمة الثقافية والفنية، إلا أننا تفاجأنا بهذا التصرف الذي جاء من دون سابق إنذار، فنحن لا نقدم برامج فنية بل خصصنا يوم الخميس من كل أسبوع لفرق موسيقية ناشئة يجد محبّوها في مقطوعاتهم وأغنياتهم ملاذاً من جحيم قذائف الموت التي لم تغادرنا منذ اندلاع الأحداث».
الملاذ المفقود
المكان الذي يحسب القائمون عليه أنفسهم على الوسط الثقافي السوري، كان بالفعل قد أقام العديد من حفلات تواقيع الكتب والمعارض الفنية التشكيلية، بالإضافة إلى معارض اللوحة الصغيرة وأنشطة الرسم للأطفال التي ذهب ريعها لهم شخصياً كما يقول داوود شارحاً: «كلّ هذا كنتُ أقدّمه مجاناً بالكامل، ورفضتُ رفضاً قاطعاً أن أتقاضى عليه ليرةً واحدة، وسأبقى كذلك، لكن اليوم أتساءل: من وراء هذا السلوك إزاء مكان صار يعتبر ملاذاً للعديد من الشباب والشابات الذين لا يملكون نقوداً لاستئجار صالة يعرضون فيها لوحاتهم ومشاريعهم التشكيلية؟ من وراء هذا السلوك في القضاء على لمحات الثقافة في دمشق القديمة التي تغص اليوم بمرابع السهر؟ إذا كانت التهمة هي عدم حيازتنا ترخيص برنامج فني كما يدّعون، إذاً فلماذا لم ترَ المحافظة كل هذه المحال التي استعمرت «حديقة القشلة»، واحتلت حتى الأرصفة المؤدية إلى قلب حي «العبّارة» شاغرةً كل سنتمتر من الطريق العام؟ وهذه محال في معظمها لديها مخالفات واضحة، أم أن الثقافة في سوريا ستبقى ضلعاً قاصراً، ليس لديها من يحميها ولا من يذود عنها؟». ظاهرة الحانات الثقافية التي تدمج بين البار والغاليري، ظهرت ما قبل سنوات الحرب الحالية بكثير، فعلى امتداد الشارع المستقيم الواصل بين قوس باب شرقي وكنيسة «المريمية» كانت حانات مثل «نينار» و «شام محل» تسجل حضوراً متزايداً لملتقيات الشعر والغناء والفرق الموسيقية الناشئة؛ إذ وجد رواد هذه الأماكن فضاءات أكثر حرية للتعبير عن أنفسهم، بعيداً عن تجهم صالات المراكز الثقافية التي ما زالت – برغم كل ما حدث – تواظب على جدول محاضراتها الخشبية وطقم محاضريها شبه الثابت، فمنذ إطلاق الفنان التشكيلي عادل إبراهيم برفقة شقيقته الفنانة رواد إبراهيم مطلع الألفية الثالثة مقهى وغاليري «عالبال» الواقع في عمق دهليز الحارة الشامية، بدأت محاور المدينة القديمة تنتعش كحيٍّ ثقافي، قدم نوعاً من فسحات أكثر رحابة لجيل الشباب من الفنانين والمثقفين الجدد كان آخرها غاليري «زرياب» لبرنار جمعة الذي حوّل اصطبل الخيول إلى صالون موسيقي؛ مستقطباً فرقاً وأصواتاً غنائية شابة، كان آخرها فرقة «رمان» التي قدمت العديد من مقترحاتها بجرأة فنية لافتة.
الحي اللاتيني
فضاء «الشام القديمة» جاء كتعويض عن فضاءات وحانات كانت أقرب إلى «الحي اللاتيني» الذي عمل تجار وسط المدينة على إقفالها بحجة تناول مرتاديها للكحول! فاختفى على التوالي كل من «بار فريدي» و «القنديل» لحنان قصاب حسن في شارع الصالحية، لتلحق بهما أكشاك الرسم في الحيّ نفسه بعد اتهام التجار للرسامين بـ «الانحلال الأخلاقي»! ما حدا وقتذاك محافظة دمشق لإزالة هذه الأكشاك التي كانت تمثل مظهراً حضارياً لمدينة تعتبر من أقدم العواصم المأهولة في العالم. زهير حسيب وإحسان العر وخليل صويلح وعادل محمود وسبهان آدم وفايز فوق العادة وأنيتة كردوس وسوزان علي، كلها أسماء اعتادت «قصيدتنا» يعلّق حكمت داوود متابعاً: «ليس لدينا مشكلة وسنقوم باستصدار التراخيص التي يريدونها، لكن كيف السبيل إلى ذلك وجميع الأوراق الثبوتية الخاصة بالمحل ما زالت عالقة في الداخل؟ خلف دمغة الشمع الأحمر الذي كم خشينا أن تصير أجسادنا بلونه القاني بعد كل قذيفة هاون كانت تسقط على بعد أمتارٍ منا؛ مخلّفةً الضحية تلو الضحية. ما حدث وما سيحدث هو أن أحداً قطع الكهرباء وأنتَ داخل مصعد يتجه بسرعة إلى الطابق السادس من الحرب، فهل من أحدٍ يسمع صوتنا داخل هذا البناء المهجور ويقوم برفع مأخذ الحياة والنور؟».
صحيفة السفير اللبنانية