فن و ثقافة

( الكومكس) القصُّ المُصوّر من الكوميديا إلى التراجيديا

باقر صاحب

الكومكس يثير جدلًا بين مؤيدين يرونه وسيلةً لجذب القرّاء الجدد ومعارضين يعتبرونه تبسيطًا يضرّ بالقيمة الأدبية للأعمال الأصلية، كما حدث عند تحويل روايات نجيب محفوظ إلى قصص مصوّرة.

يعرّف ” الكومكس ” بأنّه “قصةٌ مصوّرةٌ أو فنٌّ تصويري، وغالباً ما يتكوّن من مجموعة صورٍ تحكي أحداثاً متتابعة تكوّن قصّة، ويكون نصّ الكلام ما بين الشخصيات في رسم ضمن دائرة”. وفي تعريفٍ آخر هو”فنٌّ يجمع بين الأدب والفن التشكيلي، وهو عبارةٌ عن فيلمٍ سينمائيٍّ على الورق. فنٌّ يخاطب جميع الأعمار، وليس مُوجّهاً للأطفال بالذات. يُطلق على القصَّة المصوّرة لقب (الفن التاسع)”.

نشأت الكومكس

ظهور فن ” الكوميكس” القصص المصوّرة، لا يُعدُّ بالجديد عالمياً وعربياً، أوروبياً يعود تاريخها إلى عام 1830، وتجسّدت في قصص”مغامرات تان تان” عام 1930. أمّا القصص الأميركية المصوّرة بدأت بالظهور أوائل القرن العشرين عند انتشار القصص الهزلية في الصحف، ومن ثمَّ القصص المصوّرة في المجلات، وتجسّد انتشارها في قصص “السوبرمان”. ولكن هناك من يحاول تأصيل الكومكس، منذ أقدم العصور، بأنّه عُثر لدى المصريين القدماء، على صورٍ ذات تسلسل، وذلك على القبور أو على أوراق (الباردي) صورٌ تروي قصصاً ذات تتابع.

انتشر هذا الفن بظهور قصص الأطفال “ميكي” و”سمير”، ويقال أن بدايته عربياً في مصر، عندما أصدر وزير المعارف علي مبارك عام 1870 مجلة “روضة المدارس” وهي مجلة ذات طابعٍ توجيهي، ومن ثمّ انتشرت المجلات المصوّرة عربياً، مثل “الأحداث” في لبنان” و”أسامة” في سوريا، و”المزمار” في العراق.

بين الكاريكاتير  و الكومكس

لم يعد هذا الفن الصوري منذ بدايات الألفية الثالثة، بالنسبة للعرب، مقتصراً على نشر الحكايات والروايات المخصّصة للأطفال والشباب التي تتسم بالكوميديا، بل طرق ميدان الأدب الجاد والفلسفة الحديثة، عن طريق تحويل أعمالٍ أدبيةٍ وفلسفيةٍ مهمةٍ إلى قصصٍ وكتبٍ مصوّرة، وبات هذا الأمر شديد الجاذبية للكتّاب والقرّاء معاً، أصحاب الفئة الأولى، ومعهم دور النشر أيضاً، لاحظوا أن الكتب المصورة أصبحت أكثر الكتب مبيعاً في معارض الكتب عربياً وعالمياً، الفئة الثانية، القرّاء، باتت تستسيغ استقبال الكتب الجادّة وهي مصوّرة، أكثر من تقبّلها وهي رواياتٌ ذات لغةٍ معقّدةٍ أو كتبٌ فكريةٌ نظريةٌ جافةٌ مُشكّلة حروفياً. لكنّ هذا الأمر لم يكن ليمرّ من دون إثارة جدلٍ أو طرح تحفظاتٍ على تحويل الأدب والفكر الجادين، إلى قصصٍ أو موضوعاتٍ مصوّرة، لجهة أنّ في الأمر استخفافاً بالمحتوى الأدبي والفكري، ومن ثمّ استخفافاً بالأدباء والمفكرين، الذين عانوا كثيراً كي تُتوّج أسماؤهم نجوماً لامعةً في سماء الأدب والفكر، كون الكتب المصوّرة، أو مصطلح الكوميكس “تعود تسميته إلى الظروف التاريخية التي نشأ فيها بحيث كان امتدادًا لفن الكاريكاتير المعتمد -بالأساس- على السخرية. حتى الآن يحدث خلطٌ مغلوط، بين فن القصة المصوّرة وفن الكاريكاتير، ويتمّ اختزال القصة المصوّرة باعتبارها قصّةً مضحكة”. حاكى هذا الفن، في البدء، الرواية البوليسية، ومن ثمّ تحوّل إلى محاكاة سير الأعلام والتاريخ والفلسفة، بل بات يحاكي أيَّ محتوىً معرفيٍّ وفنيّ. فهو في الغالب فنٌ اقتباسيٌّ للأعمال المنشورة سابقاً ولمشاهير الأدباء والكتّاب، على اختلاف تصنيفات أعمالهم الأدبية والفكرية. وهناك أيضاً التأليف المباشر المُنتج لقصصٍ مصوّرةٍ جديدة.

نجيب محفوظ و الكومكس

كلما صدر كتاب قصصٍ مصوّرةٍ لأحد كبار الكتّاب يثار الجدل بشأن موضوعة الاستخفاف من عدمه بنتاج هذا الكاتب، ويُذكر أنّ الكاتب النوبلي العربي الوحيد نجيب محفوظ، قد تمّ تحويل روايته “اللص والكلاب” إلى قصّةٍ مصوّرةٍ قبل عام، وتذكر المواقع الثقافية العربية أنّه صدرت، قبل أيّامٍ عن دار المحروسة ودار ديوان، قصةٌ مصوّرةٌ لرواية” ميرامار”، وهنا يحقّ لنا التساؤل مع ما أثارته الصحافة الثقافية من تساؤلات، ماذا يضيف هذا الفن القصصي المصوّر إلى نتاج قامةٍ روائيةٍ عملاقة، مثل نجيب محفوظ، أم أنّه يستخف بقيمته الأدبية والتاريخية؟.

بين السابع والتاسع

الاقتباس أو التأليف في فن الكومكس “الفن التاسع”، يجعلنا نقاربه مع فن السينما “الفن السابع”، فالفيلم السينمائي هو عبارةٌ عن صورٍ بصريةٍ متسلسلةٍ متحركةٍ تجسّد ديناميّة العمل الأدبي المقروء، بينما في فن الكوميكس، فهي صورٌ ثابتةٌ مجسدةٌ لديناميّة العمل الأدبي ذاته. ونتذكّر هنا أنّ روايتي محفوظ “اللص والكلاب” و”ميرامار” تحوّلتا إلى فيلمين سينمائيين شهيرين، نجاحهما زادا من مبيعات النسخ الورقية لهاتين الروايتين. فهل سنشهد في المستقبل القريب تحوّل بقية رواياته المنتجة سينمائياً إلى قصصٍ مصوّرة. وهل يحقّ لنا أن نتساءل بشأن إمكانية أن تسهم نسخ الكوميكس لروايات محفوظ على زيادة مبيعات الطبعات الورقية الأصلية، مع الاختلاف عن النسخ السينمائية في كون نسخ الكوميكس مزيجٌ من الكتابة والصورة. وهناك تشابهٌ بين الكوميكس والسينما، في قضية الاقتباس، بنوعيه؛ الاقتباس الحرفي المطابق للنص الأصلي، والاقتباس الحر، الذي يقتبس الفكرة الأساسية مثلاً ليضع لها تخييلاً بعيداً عن العمل المقتبس كلّ البعد. وهنا يخطر في بالنا، رواية” مالك الحزين” للكاتب المصري إبراهيم أصلان التي حوّلها المخرج داوود عبد السيد إلى فيلم “الكيت كات” فكان الفيلم مختلفاً بصورةٍ كبيرةٍ عن الرواية، فقد اختزل شخصيات الرواية من 70 شخصية إلى شخصياتٍ بعدد أصابع اليد. وأقول؛ هل يستطيع فن الكوميكس اقتباس هذه الرواية المقطعية، لكنها ذات مقاطع غير متسلسلةٍ بتاتاً؟.

إنّ المتبنين إلى إضفاء طابعٍ تصويريٍّ قصصي على الأعمال الأدبية والفكرية، يرون أنّه سعيٌ جادٌّ لاكتساب جيلٍ جديدٍ من القراء، كانوا ينفرون من قراءة الروايات الصعبة أو النظريات المعقّدة بشكلها الحروفي فقط، فالتجسيد الصوري للشخصيات والأحداث يضفي على عمليات التلقي جاذبيةً كبيرة، ويُقال أنّ رؤية الأفكار الفلسفية المُجرّدة على شكل أفكارٍ مُجسّدة، تمكّن القرّاء من تخيّل كيف يعمل الأدباء والفلاسفة على صناعة هذه الإبداعات والأفكار. إنّ المزج بين الفكر المجرّد والسرد البصري ينتج كتاباتٍ سحريّةً مصوّرةً تتيح للقراء اكتشاف عوالم الأدباء والمفكرين، فضلاً عن ذلك، فإنّ فن الكوميكس قادرٌ على خلق تفاعل القرّاء مع الروايات المعقّدة والأفكار النظرّية المجردة.

وهنا يمكن القول أنّ هذه الخطوات العربية في استثمار فنّ الكومكس لدرر الإبداع الروائي العربي، تُعتبر حديثة العهد، تقريباً مع بدايات القرن الحادي والعشرين، وعدا المغامرات الجريئة في استثمار روائع نجيب محفوظ، ورواية المغربي محمد شكري” الخبز الحافي” توصف الخطوات العربية في هذا المجال بأنّها خجولةٌ ولكنّها حبلى بمستقبلٍ واعد. وهنا تجدر الإشارة إلى الرواية المصوّرة “المترو” للكاتب والفنان المصري مجدي الشافعي، التي صدرت في القاهرة عام 2007، حيث كُتب عنها بأنّها “ثارت ضجّةً كبرى واشتعل الرأي العام المصري بالأزمة التي أثارتها الرواية الأولى المصورة المُوجّهة للكبار، بعد أن رأى فيها البعض جرأةً غير معتادة، ونقداً لاذعاً للمجتمع والسياسة والنظام القائم آنذاك، بل تفاقم الأمر، ووصل حدّ مساءلة المؤلف والرسام جنائيّاً على إبداعهما وصدور قراراتٍ بالحبس والغرامة ومصادرة نسخ الرواية”. كما اعتبرت “الرواية المؤسِّسة (بكسر السين)، الأولى لأحد أهمّ فنون التعبير التي تنتمي للبوب آرت أو “الغرافيك نوفل”.

التجارب العربية، على العموم، تقتدي بما جرى عالمياً في هذا المجال، فقد تمّ تحويل روائع الأدب العالمي إلى هذا الفن البصري الآخذ في الانتشار، مثلاً رواية” المسخ” للكاتب التشيكي الالماني فرانتز كافكا، ورواية” الغريب” للكاتب الفرنسي البير كامو، ورواية “1984” للكاتب الإنكليزي جورج أورويل، ورواية “دون كيخوت” للروائي الاسباني ثربانتس، ورواية “الخادمة” للروائية الكندية مارغريت أتوود” ورواية “الخيميائي” للكاتب البرازيلي باولو كويلو. ولم يقتصر اقتحامات فن الكوميكس على الأدب فقط، بل اقتحم قلاع الفن التشكيلي، فقدّم السير الذاتية لأعلام هذا الفن، مثل الهولندي “فان كوخ” والاسباني “سلفادور دالي” والايطالي “ليوناردو دافنشي”، وبذلك قدّم خدمةً رائعةً لعشّاق فنّ الكوميكس بإضاءته لسير هؤلاء الخالدين.

ميدل إيست أونلاين

 

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على الفيسبوك

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على التويتر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى