الكاتبة البريطانية بيشنس موبرلي جابت المشرق ودوّنت خواطرها

«خواطر امرأة غربية في المشرق» (جرّوس برس ناشرون) للكاتبة بيشنس موبرلي، الذي قام بترجمته مروان سعد الدين عبارة عن خواطر امرأة أمضت جزءاً كبيراً من حياتها مع زوجها في المشرق كما يقول العنوان بدقة متناهية. نحن إذاً أمام تدوينات أدبية لمذكرات امرأة غربية في المشرق.

الديبلوماسي البريطاني جون موبرلي وطبيبة الأطفال خريجة جامعة «سان جورج» في لندن بدآ معاً عام 1959 تجوالاً في مشرقنا من قطر، في الخليج العربي الذي كان يشهد بدايات اكتشاف النفط، مروراً بلبنان، الأردن، العراق، بلتستان (في باكستان) ثم فلسطين. كانت للكاتبة ذكريات في كل محطة دونتها في هذا الكتاب.

بعد أيامٍ على خطوبتها أبلغها جون أنه عُيِّن ديبلوماسياً بمنصب وكيل سياسي في قطر. كانت حينها لا تعرف حتى اسم الدولة. ومن هنا بدأت الحكاية. فانطلاقاً من كونها زوجة ديبلوماسي بريطاني رفيع المستوى في قطر، خصوصاً أنّها– أي قطر– لم تكن مستقرّة سياسياً في تلك المرحلة، وأبرمت بريطانيا معها معاهدة لحمايتها والإشراف على سياستها الخارجية، تسنت لها فرصة رؤية ما يجري من وراء الكواليس. وتالياً استطاعت أن تدوّن تلك المشاهدات التي تتأرجح بين المذكرات والخواطر.

في تلك الفترة، وُجِدت جالية كبيرة من عمال الخدمة الهنود، والمهنيين وعمال النفط العرب في الوقت الذي شغل فيه البريطانيون المراكز القيادية. وكان جون، الوكيل السياسي حينها، والمندوب السامي في البحرين لهما وحدهما الحق في إصدار القرارات والبتّ في كل الأمور، بالتالي فإن الكاتبة تعكس في ما تقول أجواء صناعة القرار وقتذاك.

ولعل أبرز ما لفت السيدة موبرلي هو طبيعة علاقات النساء بأزواجهن، فالرجل، على رغم كونه الآمر الناهي، بيد أن النساء الأربع، اللواتي يجيزهن له الشرع، لعبن دوراً بارزاً في التأثير في القرارات التي قد يتّخذها الزوج. فالمرأة الأولى يجب أن تكون حُكماً هي ابنة العم، وتبقى الزوجة الثانية هي المفضّلة لأن الزوج عاش معها قصة حب قبل الارتباط، ناهيك عن الثالثة والرابعة إن وُجِدن. وعادة ما تكون الرابعة صغيرة السن ويستطيع التخلي عنها متى شاء وإعادتها إلى أبويها مع جواهر وأموال تمكّنها من الزواج من جديد، أما حضانة الأولاد فتُمنَح للأب. هذا وتتوقف بيشنس عند بيع الرقيق والعبودية السائدَين وقتذاك، واللذين ألغيا قبل عشرة أيام على وصولها وجون.

كانت من بين المهام التي أسنِدت إلى جون ترسيم الحدود مع أبو ظبي، وهذا ما جعله واحداً من أكثر الرجال نفوذاً في الدوحة. أما في لبنان فشغل جون منصباً مختلفاً حيث تولّى إدارة مدرسة مركز الشرق الأوسط للدراسات العربية MECAS، وهي مدرسة اللغة العربية للأجانب التي تخرّج منها في صغره. وراحت تُعرَف بمدرسة الجواسيس وقتذاك.

تتوقف الكاتبة مليّاً في هذا الفصل عند جمال الطبيعة في لبنان سفحاً وجبلاً وبحراً، فهي تقول عن بيروت إنها عاصمة مثيرة للاهتمام في الشرق الأوسط (ص38). ثم تنتقل بيشنس للحديث عن مجريات الوضع في لبنان آنذاك. إذ كانت القرى المحيطة بشملان، حيث يقع مقر المدرسة، من طوائف مختلفة تتربّص بعضها ببعض شرّاً. وفي ذلك الوقت عُثِر على زوجين بريطانيين قتيلين في حديقة منزلهما، ويُقال إن الإسرائيليين كانوا وراء تلك الحادثة المروعة سعياً منهم إلى تأجيج نيران الوضع.

ولعل مشاهدات بيشنس في لبنان جاءت غير دقيقة أحياناً لأنها لم تكن في موقع زوجة الديبلوماسي، بالتالي كانت تستند إلى ما تراه أو يترامى إلى مسامعها. أما في الأردن فتولى جون منصب سفير، وقد نُقِل إليه إثر اندلاع الحرب الأهلية في لبنان. تتوقّف بيشنس عند المجتمع الأردني وعاداته وطبيعة علاقته بالأجانب. فهم حذرون جدّاً في التعامل معهم، بالتالي لم تكن زيجات البريطانيات من رجال أردنيين ناجحة واستمرت نظراً لإصرارهن على ذلك وحسب.

ومن الأحداث التي طُبِعت في ذاكرتها أن الملك حسين وقتها تعرَّض لمحاولة اغتيال ولم يثأر ممن كانوا وراءها، لا بل عيّنهم في مناصب رفيعة. ونتيجة ذلك، أصبحوا من أكثر المخلصين له.

ولعل أبرز ما لفت السيدة موبرلي في الأردن هو وجود ذاك الكمّ الهائل من الآثار المتوغّلة في التاريخ والتي تشكّل معالم حضارية مهمة حتى يومنا هذا.

أما في العراق فكان لوجود صدام حسين في سدّة الرئاسة، والسياسة الصارمة التي اتّبعها، تأثير كبير على طبيعة الحياة، بحيث بات يُنظَر إلى كل أجنبي على أنه جاسوس، وكل من يتعامل معه من السكان المحليين يُعتبَر خائناً. وغالباً ما كان خدامهم والعاملون لديهم جواسيس عليهم. «بدا أن رجلاً بريطانياً واحداً نعرفه يقيم علاقة ودية مع محافظ بغداد، ويستطيع زيارته ورؤيته بنحو غير رسمي في المساء في منزله متى شاء. لكن القصة انتهت بحبس البريطاني في سجن أبو غريب ثماني سنوات وشنق المحافظ ونائبه (امرأة)» (ص75).

وقد كان المجتمع العراقي وقتذاك، كما هو معلوم، يعاني من ظلم صدام، إلا أنّ الكاتبة تتوقف عند ملاحظة تراها مهمة وهي إنصافه للمرأة وإعطاؤها حقوقها في شكل شبه تام.

هذا وتحدثت السيدة موبرلي عن غنى العراق بالآثار، فالمتحف العراقي هو أحد أهم المتاحف عالمياً. ولعل أبرز المآسي التي ألمت بالعراق خلال غزوه هي سماح الأميركيين بسرقة آثاره التي لا تُقدَّر بثمن، دائماً بحسب بيشنس.

ولكن على رغم تعاطف الكاتبة الكبير مع هذه الشعوب ومع أحقية القضية الفلسطينية كما سنرى لاحقاً، إلا أنها تتحدّث أحياناً بلغة المستعمر، إذ قالت على لسان أحد البنغلادشيين: «مشكلة بلادنا أن البريطانيين لم يستعمروها» (ص78).

وبصحبة أصدقائهم كانت لهم وقفة سريعة في بلتستان (باكستان)، فقد ذهبوا إلى هناك لزيارة ابنهم الذي عمل فيها. وألقت الكاتبة الضوء في هذا الفصل على الفقر المدقع الذي تعاني منه غالبية السكان. ولا تُعتبَر رحلتهم بالمهمة السهلة حيث مشوا في طرق وعرة أثناء تجوالهم وتعرضوا لانزلاقات أرضية خطيرة.

أمّا الفصل المتعلِّق بفلسطين، فيبدو الأكثر أهمية في هذا الكتاب. حيث يلقي الضوء على معاناة هذا الشعب الذي سُلِب أرضه، وعلى ظلم ووحشية الإسرائيليين اللذين لم يسبق لهما مثيل في التاريخ. وكان الشعب الفلسطيني يعي تماماً أن البريطانيين هم من تسببوا بذلك. «كنا نذهب ونزور مدارس يضع معلّمون فيها خرائط لفلسطين تظهر ما قد حدث للبلاد، ويعبّرون بحدّة عن معاداتهم للبريطانيين بسبب السويس والغزو الإسرائيلي لفلسطين الذي شعروا أن وعد بلفور مسؤول عنه» (ص101). وعلى رغم ذلك تتحلّى غالبية الشعب الفلسطيني بالطيبة ولا يسيئون معاملة البريطانيين عامة. «كان ذلك تعاطفاً رائعاً من النوع الذي يغمرك الفلسطينيون به حين لا تتوقعه إطلاقاً» (ص102).

ولا مجال لذكر كل الحوادث المرّوعة التي يتعرض لها الفلسطينيون على أيدي الإسرائيليين والتي تناولتها السيدة موبرلي في هذا الكتاب. ربما أبرزها أن 55 امرأة على الأقل أرغمن على إنجاب أطفالهن وهن منتظرات على أحد المعابر. وقد توفي من الولادات 23 طفلاً كحدٍّ أدنى، وآخرون كانوا بحالة صحية خطرة فلاقوا مصرعهم أيضاً نتيجة تأخيرهم في العبور إلى المستشفى.

تتوقف الكاتبة عند الجدار العنصري الفاصل مليّاً. ولا غرابة في كلّ هذا التضامن مع أحقية القضية الفلسطينية، فقد ذُكِر في توطئة الكتاب أن جون وبيشنس موبرلي مسؤولان عن «إنشاء أول وحدة عناية مركزة في غزة وتدريب فريقها، وهما عضوان مؤسسان للمعونة الطبية للفلسطينيين، المعروفة اختصاراً بـ MAP، وأي عائدات من هذا الكتاب ستذهب إلى تلك المؤسسة الخيرية».

هذا ويبدو جليّاً أن الهدف من كتابة هذا المؤلَّف معنوي وإنساني أكثر منه أدبي. إذ يعاني من التفكك في الأسلوب وغياب عناصر التشويق والترجمة الحرفية ليغدو عبارة عن خواطر وتدوينات وحسب.

صحيفة الحياة اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى