الكتابة بين جارين

عند أول مجيئي من الشام إلى تونس، سألني جاري البقّال في اهتمام شديد: متى انشقّ “اللّواء اسكندرون” عن الجيش السوري؟ وما أن هممت بالإجابة لأشرح له أنّ لواء اسكندرون لا يحمل أي رتبة عسكرية، وهو ليس إلاّ منطقة اقتطعت من سوريا ووقع ضمّها إلى الأراضي التركية ،وهلمّ جرّا من تلك التي حفظها وملّها ثم نسيها أكسل تلميذ مدرسة في سوريا،حتى امتلأ دكّانه بالزبائن، فانسحبت خشية إحراجه وتركته ينشغل بما هو أنفع من سؤاله.

لم ينس جاري سؤاله المعلّق، وحاول طرحه في أكثر من مرّة ، لكنّ مداهمة زبون مستعجل، كانت في كل مرّة تسعف الموقف،فتعفيني من الإجابة ،وتنقذه من إحراج لا يحسد عليه ،وهو المتابع الدؤوب لأخبار المنطقة من تلفاز صغير مثبّت فوق رفّ علب الهريسة والدخان.

ذكّرني جاري التونسي بجاري السوري الخواجة “ب”،وهو صاحب مطعم معروف في حي باب توما الدمشقي الشهير, وعند آخر السهرة ,كان يجلس المعلّم “ب ” إلى طاولة مجموعة المثقفين المرابطين في المحل كل مساء، ويبدأ كعادته بعد كأسين في شتم”طالبان”وبصيغة العاقل المفرد, وكان جلساء الطاولة يهزونّ له برؤوسهم موافقين وزائدين عليها بمختلف عبارات الشتم والسباب،لكنّ لا أحد منهم تجرّأ ذات ليلة على تصحيح المعلومة الفظيعة،وهي أنّ المعلّم ” ب” يظنّ أنّ “طالبان ” شخص بعينه ورأسه وثيابه وزوجته، وليس حركة أو جماعة مسلّحة..وظلّ مثقفو الطاولة يثنون على موقفه و”طائفته الكريمة والمظلومة”،والحقيقة أنّها كلمة حق يراد بها “بوطل”، أي زجاجة من تلك الملقّبة بأم الخبائث .

هكذا يتآمر الكثيرون مع جهالة و رعونة بعضهم ، خصوصا إذا كان هؤلاء من ذوي الامتياز والنفوذ،وذلك عن حاجة أو خوف أو طمع أو خجل أو تماه، أو حتى عن مكر واضح، كما يقول المثل التونسي:”إذا شفت واحد راكب على عصا،قل له مبروك ها الحصان”، يضاهي هذا ويزيد عليه مثل شامي طريف في قوله:”الولد اللّي مو من ظهرك( ليس من صلبك) ،إذا جن افرح له” .

لم أتعامل وفق المثلين الأخيرين ،لا مع جاري البقّال التونسي “الإسكندروني”، ولا صاحب المطعم السوري “الطالباني”،وذلك ليس بدافع الحرص الأخلاقي وحده في ضرورة تصحيح المعلومة وتقويم الاعوجاج،بل لأنّ صديقي الخواجة”ب” قد أغلق مطعمه على تلك الحكايات والشتائم والزجاجات، وهاجر إلى أمريكا،ولم أعد أتواصل معه إلاّ عبر الفيسبوك، وغالبا ما يتقاسم معي على صفحته صور جرائم “طالبان” ويكثر من الحنين إلى مجالسة المثقفين، أمّا جاري “الإسكندروني” فقد عدت لأسدّد له ثمن الهريسة وأصحّح له المعلومة ،فوجدته قد أغلق دكّانه وسافر يقتفي آثار ابنه الذي غرّرت به الشبكات التكفيريّة وسفّرته للالتحاق بالجماعات المسلّحة عبر الأراضي التركيّة ،أي بالقرب من لواء اسكندرون.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى