كتب

الكتابة خارج الكابوس

محمد خضير سلطان

بالرغم من أن الكاتب الدكتور عبد الحسين شعبان قد استخدم في كتابه الأحدث «بشتاشان… خلف الطواحين وثمة ذاكرة» (الصادر عن دار الرافدين ببغداد 2024) عنواناً ثانوياً يصرّح فيه على نحو مباشر بالنفي «شهادة وليست رواية»، لكنه أي العنوان الثانوي هذا، وفي سياق بلاغي آخر، يوحي بالإثبات كشهادة روائية حقيقية، لتكون عنصراً جديداً ومضافاً في رواية سيرية خالصة.

 

المؤلف شعبان يقدم الشهادة على الرواية، لأنه أراد أن يَعرض تجربته الشخصية في واقعة بشتا شان الأليمة التي لم تكن، كما يقول، قضاءً وقدراً أو نجمت جراء زلزال أو كارثة طبيعية لكي تختفي آثار الضحايا وقبورهم بل كانت بفعل فاعل دبّر بليل حالك الظلام، غير أن هذه الشهادة ستتوارى بالمعنى البلاغي في إطار الرواية، وتغدو عنصراً سردياً متكاملاً مع مستويي الذاكرة واللغة وبنائهما المتضافر في كتابة السيرة.

وكان اسم بشتا شان دخل القاموس السياسي عام 1983 بعد أن تم تشكيل «منظمة الأنصار» التابعة للحزب الشيوعي العراقي في هذه القرية المتجمدة المعزولة في قرى جبل قنديل لمقاتلة النظام البعثي العراقي. وكان قد حصل صدام مع أحد الفصائل الكردية، راح ضحيته نحو سبعين مقاتلاً أنصارياً، وبعضهم لا تعرف قبورهم حتى الآن، كما يقول المؤلف.

لكن هذه القراءة الانتقائية في هذا المقال لا تقدم عرضاً شاملاً للكتاب قدر ما تسعى إلى التركيز على ما هو لافت في البناء الأسلوبي الروائي وطريقة بسط وتبويب وتسلسل الحقائق والمواقف والوقائع والشخصيات وربطها التواصلي بالوقت الراهن، كأن الكاتب في شهادته الروائية يقرن العزلة والأمكنة المهجورة التي عاشها في تجربته بقرية بشتا شان، بتجربة الكتابة الحية والفعاّلة بعد أكثر من أربعين عاماً في خضم موجات متصلة ومتراكمة من الوقائع، لم تنقطع بأي حال عن الماضي، أي أن زمن الوقائع يستعاد بكل عزلته وكهفيته الجبلية من خلال سخونة وفاعلية زمن الكتابة، وبذلك فإن الزمن السردي الأول «زمن الوقائع» يقوم ويتحرك على قاعدة الزمن السردي الثاني «زمن الكتابة».

هذه المعادلة المتوازنة بين الزمنين نادرة جداً كسمة أسلوبية لدى كتّاب السير من السياسيين والأدباء فهم يكتبون سيرهم بوصفهم متقاعدين عن الخدمة فيما العالم توقف عند تقاعدهم، فضلاً عن تماهيهم مع تجاربهم دون أي أثر نقدي ومعرفي مضاف.

وبرهن المؤلف على شمولية شهادته الروائية من خلال كتابة السيرتين الذاتية والغيرية اللتين جعلهما إطاراً فنياً لرؤيته العامة، ومنبعاً غزيراً بالتفاصيل، سواء في السيرة الذاتية له أو الغيرية لآخرين في مكان وزمان محددين.

السيرة الغيرية تبدأ بالحديث عن سيد هاشم مالك علي، ورفاقه الأربعة القادمين من اليمن والشام في بداية الثمانينات، والمتوجهين عبر شمال إيران إلى قرية بشتا شان التي هجرها أهاليها تحت ضغط الحرب آنذاك. ويواجه هؤلاء مصاعب كأداء في الطريق إلى الجبل وكادوا يقعون في قبضة «الباسدران» (الحرس الثوري الإيراني) لولا الجواز السوري وبعض التوصيات التي يحملها هاشم من قادة كرد.

وركزت السيرة الغيرية على سيد هاشم كونه النموذج الروائي الصلب الذي ينتقل من جمهورية الفاكهاني نتيجة المطاردات القمعية من قبل نظام بغداد آنذاك إلى عزلة الجبل، مساهماً في أن يأخذ حزبه الشيوعي العراقي موقعه الجديد من الأحداث بعد أن تفرط شتاته في مخاضات الشام واليمن.

وحين أعاد المؤلف كتابة السيرة الذاتية له بالخطى نفسها للدخول إلى قرية بشتا شان والانغمار في الوضع الجديد، سرعان ما نلحظ الكتلة الرمزية السارية في السيرتين والمنضوية في السرد، وهي تبث خليطاً من التساؤلات المرّة والآمال المكبوتة والمجهضة، يتخللها وعي نقدي حاد يقود إلى البحث والتدقيق والفخر أيضاً بالتجربة.

وبذلك تغدو اللحظة التسجيلية أو الوثائقية في السيرتين الغيرية والذاتية أكثر من كونها تجربة حقيقية وواقعية، يجري البحث فيها عن حقائق الصراع السياسي والاقتتال الشرس بين أطراف متنازعة وما تكابده من وعورة الجبال ومنحدراتها الحادة ومقاومة الطبيعة وقسوتها، إنما هي فضلاً عن ذلك تطرح السؤال الوجودي الذي يرافق الشقاء الإنساني والوطني والذاكرة الارتجاعية التي لا تنفصل عن المدى الاستشرافي لها في الوقت نفسه.

إن مستوى الذاكرة «لغة التذكر» لدى شعبان، تنتقل من وقائع ربما تبدو منسيّة في خضم الصراع إلى ربطها الفعّال مع تاريخية وتطورية الصراع المستمر نفسه، وبذلك يدخلها في طور حيوي جديد لا يغيب عنها المعنى الوجودي والإنساني، إنها لغة تتجنب الوقوع في كابوسية الوقائع لدى من عاش هذه التجارب الصعبة وكتب عنها، بل هي استثمار جمالي ناجع لكوابيس الطغيان.

بذلك لا يختزل المؤلف كتابة السيرة وأوجاع الذات العراقية في الجانب الظرفي للطغيان وضحاياه، السجين والسجان أو الجلاد والضحية، ولا تنصرف ذاكرته إلى ماض منقطع عن الراهن، بل إنه واع بمتغير اللحظة الحاضرة، ويكتب في سياقها الموضوعي غير المنفصل عن الماضي.

صحيفة الشرق الوسط اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى