الكتـابـة فـي بـلاد الخـوف
بلاد الخوف هي البلاد التي يحكمها الطغاة الذين يحسبون أن لا ضمانة لسيطرتهم على نظام الحكم إلا بإخافة الناس و ترويعهم بأن أية محاولة في انتقاد الحكم و معارضته حتى و لو بالرأي كتابةً أو شفاها ً محكوم صاحبها بالاعتقال التعسفي المصحوب بالتعذيب الجسدي و السجن لأمد طويل أو الإغتيال و غيرها من عقوبات مريعة مما يردع المواطنين عن أية محاولة للقضاء على النظام الحاكم و قد أحالهم إلى مخلوقات صاغرة عاجزة .
هكذا تفقد الكتابة في بلاد الخوف براءتها و بالتالي طهارتها ذلك لأن البراءة مرتبطة أصلا بالفطرة و الأصالة فإذا حكمها الخوف تمزق الحبل السري الذي ترضع منه حليبها مما يشوش الفطرة و يخمد أصالتها و يفتح المجال للتكلّف و الكذب فتتلوث الكتابة و تفقد بالتالي صفاءها و طهارتها .
و الكاتب في هذه البلاد واحد من ثلاثة : كاتب غلبه النفاق فحالت كتابته إلى نوع وضيع من الارتزاق ، أو كاتب أضناه الخوف فعمد إلى الترميز الموغل في الإبهام فتحولت الكتابة لديه إلى نصوص موصدة لا سبيل إلى تحريك أقفالها و فتح أبوابها لأحد سوى صانعها ، أو كاتب ثالث آثر الهرب أو التقاعد المبكر عن الكتابة حتى لم يعد يسمع له صوت إلا في المجالس الحميمية المقفلة على حضور محدد موثوق ، ففقدت الكتابة بالتالي علاقتها الجذابة بالناس الذين يعايشونها .
و إذا ما وجد نوع رابع من الكتاب فهو الأكثر خطورة و نعني الكتابة الصادرة عن قناعة ثابتة مكتملة بالنظام الحاكم المستبد في بلده فهو إذن كاتب لا ينافق و لا يوغل في الإغماض و الترميز و لا يغيب إسمه عن أجهزة الإعلام في بلده ، و هو الأكثر خطورة ذلك لأنه إذا ما كان صاحب موهبة إبداعية أصيلة فهو يبدو أكثر إقناعا و عمقا كالشاعر الأميركي الأصل ” عزرا باوند ” مثلا الذي اختار الإقامة في إيطاليا طول حياته الباقية في عهد الديكتاتور ” موسوليني ” و نظامه الفاشي القائم على الاستبداد المطلق الذي كان عزرا باوند معجبا به لأسباب خاصة به ، أو الروائي الروسي السوفياتي ” إيليا إهرنبورغ ” الذي كان مواليا للنظام الستاليني المرعب ، و آخرين في بلاد أخرى متنوعة كانت محكومة بأنظمة استبدادية طاغية …
الغريب أو الطريف في أمر هؤلاء المبدعين أن مواهبهم لم تنجدهم في الكشف عن سوءات النظام الغاشم الذي آمنوا به إما لنقص فادح في المعلومات التي حصلوا عليها عن ذلك النظام أو لأنهم يحملون أصلاُ في قرارة وجدانهم الأخلاقي بل و المعرفي لوثة تقنعهم بشكل ما بنظرية المستبد العادل و القادر حسبها على اتخاذ القرارات الضرورية و المناسبة للصالح العام بالسرعة اللازمة التي لا تتوفر حسب رأي هؤلاء الكتاب في الأنظمة البرلمانية أحيانا بسبب النقاشات الطويلة جدا التي لا تسمح باتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب …
و في جميع هذه الحالات تبقى الكتابة نوعا من التفكير أو الإبداع الملتبس المشكوك في صلاحيته و جدواه و حدها الحرية التي لا يحدها سوى القوانين الوضعية التي يتفق عليها الافراد مع الجماعة في تسوية ترضي الطرفين : الحرية الفردية ، و الحرية الاجتماعية – إذا صح التعبير – تسوية تحرر الجميع من الخوف الذي يفسد الجميع حكاماً و محكومين .