الكرد والعرب .. حديث العتاب والسياسة

لعلّ أفضل وصف للعلاقات العربية الكردية، هو العتاب المتبادل. فالكرد الذين هُم شعب عريق وعاش على أرضه التاريخية، تفاعل مع الإسلام منذ وصوله إلى ديار الكرد مع الصحابي عياض بن غنم عام 17 هجري، وأسهم عبر التاريخ في الدفاع عن المنطقة وهويّتها، وأنجب شخصيات تاريخية من أمثال القائد صلاح الدين الأيّوبي الذي حرّر بيت المقدس عام 1187، ويوسف العظمة أوّل وزير دفاع سوري استشهد في مواجهة زحف الفرنسيّين على العاصمة دمشق في معركة ميسلون عقب الحرب العالمية الأولى، فضلاً عن قامات فكرية وثقافية ولغوية لا يتّسع المجال هنا لذكرها.

يعتقد الكرد أنّ أشقّاءهم في التاريخ والجغرافية والدين، لم يعطوا الاهتمام المطلوب لقضيّتهم وما لحق بهم من ظلم، ولاسيّما في عهد صدّام حسين، وأنّ وسائل الإعلام العربية لا تتعامل مع قضيّتهم إلّا من زاوية ردود أفعال على أحداثٍ آنية وليس انطلاقاً من قضيّة شعب تعرّض للإقصاء والتهميش والتعريب تحت شعارات قومية وإيديولوجية دمّرت الكرد والعرب معاً في العراق وسوريا، والمشكلة هنا لا تتعلّق بغياب صيغة قانونية ودستورية لتنظيم العلاقة بين الشعبَين العربي والكردي فحسب، بل بالعقل السياسي العربي على اختلاف مشاربه القومية واليسارية والليبرالية وتياراته الإسلاموية، ولاسيّما الإخوان المسلمين، فضلاً عن الإرث العام للتقاليد والثقافة. إذ إنّ الإطار العام لهذا العقل السياسي ينطلق من شعارات كبرى كلّية ولا ينظر إلى الكرد سوى كقضية هامشية ثانوية، يمكن تأجليها إلى ما لا نهاية، بل وكثيراً ما يخرج البعض هذه القضية من منطق الجغرافية والتاريخ والمجتمع، ويضعها في إطار نظريات مشبعة بروح العداء، كتلك التي تصفهم بالشعوبية أو بالعجم، أو حتّى بالتآمر على الأمّة العربية مع الأعداء من أميركا وإسرائيل وغيرهما، وفي أحسن الأحوال التقرّب من حقوق الكرد والاعتراف بحقّهم في تقرير المصير في إطار رؤية لا تخرج عن المنّة والمنحة. وهكذا يتحوّل الكردي المُطالِب بحقوقه القومية والاعتراف بهويّته إلى عنصريٍّ مضاد ينبغي محاربته إن لم يكن قتله كما كان يقول حزب البعث في العراق أيّام صدّام حسين حيث كانت مادة داخلية في النظام الداخلي للحزب تقول “بوجوب نفي وإبعاد كلّ من دعا أو انضمّ إلى تكتّل عنصري ضدّ العرب”؛ فمن رحم هذه الإيديولوجية بنى الاستبداد عروشه، وتحجّر الفكر في شعارات إيديولوجية، وتجمّدت مفردات الثقافة والفكر لصالح التعصّب والعداء في قوالب جعلت من الدولة الوطنية سجناً كبيراً للكرد وغيرهم من الأقلّيات القومية والدينية. وانطلاقاً من كلّ ما سبق، كانت مواجهة أيّ مطالبة كردية بإعادة تأسيس الدولة العراقيّة واليوم السوريّة بالحديد والنار بدلا من أن تكون هذه المطالبة مراجعة للعقل والفكر والإيديولوجية، ودعوة للتخلّي عن الاستبداد ومصادرة حقّ الشعوب والأقلّيات غير العربية، حتّى بدت صورة الدولة العربية الحديثة صورة للاستبداد والقمع.

في المقابل، ثمّة عتب عربي مترسخ تجاه الكرد على شكل أسئلة ورؤى في العقل السياسي؛ وهو عتب ربما ينطلق من أولويّات ومخاوف لها علاقة بالإيديولوجية من جهة، وبالقضية الكردية ككلّ من جهة ثانية. فثمّة سؤال يشغل عقل النخبة العربية، وهو لماذا تُثار القضية الكردية بقوّة في العراق وسوريا ولا تُثار في إيران وتركيا بالقوّة نفسها علماً أنّ عدد الكرد في تركيا يتجاوز عددهم في هذه الدول مجتمعةً، كما أنّ عددهم في إيران أكبر من عددهم في العراق؟ كذلك، فإنّ بعض المثقّفين العرب، ولاسيّما من التيّار القومي، كثيراً ما ينظرون بخشية شديدة إلى أيّ مطلب كردي بشأن حقّ تقرير المصير، إذ إنّهم غالباً ما يضعون هذا الحقّ للكردي في إطار المؤامرة على الأمّة العربية، بل ويذهبون إلى حدّ وصف مثل هذا المطلب بتأسيس إسرائيل ثانية، مع أنّ مثل هذا الوصف يفتقر إلى المنطق والدقّة، فعلى الأقلّ الكرد هُم شعب مسلم ويعيش على أرضه التاريخية منذ الأزل، خلافاً للإسرائيليّين الذين تمّ استقدامهم من مختلف دول العالم للاستيطان على أرض فلسطين وإقامة دولة إسرائيل على أرضها التاريخية، فيما كردستان، كمصطلحٍ جغرافي، قائم منذ قرون. أسئلة ربما مشروعة على مستوى الفكر والسياسة، ولكنّ الإجابة عنها تتطلّب الخروج عن الأحكام الجاهزة إلى معرفة الحقائق والوقائع، كي تكون المقاربة السياسية للقضية واقعية وعقلانية تخدم المصالح المشتركة.

رؤية التيارات الإسلامية ربما لا تختلف كثيراً عن رؤية الأحزاب القومية العربية في هذا المجال، فتيّارات الإسلام السياسي غالباً ما بنت رؤيتها تجاه الأقلّيات القومية والدينية على أساس الوحدة من دون الاعتراف بالخصوصية الكردية القومية أو مساواة الكرد بالعرب والأتراك والفرس بهذا الخصوص، بل إنّ تيارات إسلامية عربية، وانطلاقاً من تحالفات سياسية إيديولوجية مع أنظمة سياسية، دعمت حرب الأخيرة ضدّ الكرد. وهنا لا بدّ من التذكير بالموقف الذي اتّخذه مراراً الشيخ يوسف القرضاوي (رئيس الاتّحاد العالمي لعلماء المسلمين) عندما أعلن في أكثر من مؤتمر للاتّحاد دعمه للحرب التي تقودها حكومة حزب العدالة والتنمية في تركيا ضدّ الكرد بزعم مكافحة الإرهاب، وذلك في دعم سياسي واضح لموقف رجب طيّب أردوغان، مع أنّ مثل هذا الموقف يثير أسئلة واستفهامات كثيرة لدى أكثر من عشرين مليون كرديّ في تركيا ومثلهم في الدول التي يتواجد فيها الكرد، ولسان حالهم يقول لماذا مثل هذا الموقف العدائي من الكرد؟ وكيف لمن يدعو إلى الخير والسلام والحرّية والتسامح والدين ونصرة الشعب الفلسطيني أن يدعم الحرب ضدّ شعب مسلم كانت له مساهمة مفتوحة في تحرير بيت المقدس؟ وهل يستحقّ أحفاد صلاح الدين الأيوبي مثل هذا التعامل؟ مع أنّ مواقف بعض القوى اليسارية والاشتراكية العربية كانت متقدّمة على مواقف التيّارين القومي والإسلام السياسي من القضية الكردية، إلّا أنّ مواقف هذا التيّار ظلّت في إطار رؤية النخب الفكرية والثقافية من دون أن تتحوّل إلى واقعٍ ملموس يمكن البناء عليه سياسياً في بناء مقاربة عملية من القضيّة الكردية. واللافت في موقف هذا التيّار أنّه خلال العقود الماضية، وتحديداً خلال الحقبة السوفييتيّة، ذهب إلى دعم حقّ تقرير المصير لمختلف شعوب العالم من أميركا اللاتينية مروراً بأفريقيا إلى أقصى آسيا. ولكن في الحالة الكردية كان يتقرّب من هذا الحقّ بطريقة خجولة، ولعلّ هذا ما جعل موقفه المتقدّم هذا دون فاعلية يمكن البناء عليه.

في الحقيقة، يمكن القول إنّ واقع العلاقة العربيّة – الكرديّة يعاني من خللٍ فكريّ وسياسيّ يتعلّق بالرؤى والموقف قبل أن يتعلّق بغياب أطرٍ قانونية ودستورية لتنظيم هذه العلاقة والحقوق والمستقبل. فالزوابع التي أثارتها بعض الأنظمة والمعارضات العربية معاً من قضية إعلان كرد العراق الفدرالية قبل نحو عقدَين تكرّر بشكلٍ أو آخر مع النظام والمعارضة في سوريا، وذلك عندما أعلن كرد سوريا الفدرالية قبل أشهر تعبيراً عن تطلّعهم إلى ممارسة نوع من الحكم الذاتي والهويّة، إلى درجة يمكن القول إنّ النظام والمعارضة لم يتّفقا سوى على رفض الفدرالية مع أنّ النظام الفدرالي أثبت بالتجربة التاريخية أنّه الأنجح من النظام المركزي، سواء لتحقيق النموّ والتنمية أم لضمان الوحدة والاتّحاد. وعليه يستغرب الكرد الضجيج المُثار بشأن الفدرالية والإصرار على وصفها بالتقسيم والانفصال، فيما هُم يرون فيها نموذجاً للحكم يضمن هويّتهم وإدارة شؤونهم في إطار تصوّرٍ مستقبليّ بدلاً من الوقوف على أمجاد أنظمة رفعت شعارات قومية ووطنية لم تنتج عملياً سوى الاستبداد والتخلّف، وعمّقت من الانقسامات السياسية والطائفية على حساب العملية السياسية والديمقراطية التي تشكّل رافعة للتطوّر.

دون شكّ، جدران سوء الفهم أو التفاهم العربي – الكردي للبعض كثيرة، ومواطن الخلل أكثر، ولعلّ الوصول إلى علاقة إيجابية بحجم التاريخ والجغرافية والمصالح المشتركة والمستقبلية يتطلّب مراجعة فكرية وسياسية وثقافية، ومثل هذه المراجعة لا بدّ أن تكون مدخلاً لكسر الإيديولوجيات التي كلّست الفكر وأطّرته في شعارات معلّبة، على أمل أن تؤسّس هذه المراجعة لفهمٍ جديد بحجم الوقائع التاريخية والجغرافية والثقافية وتُنهي التخلّص من تلك الرؤى والنظريات الجاهزة التي نظرت على الدوام إلى الأقلّيات القومية والدينية من زاوية الريبة والشكّ والمؤامرة. فالثابت أنّ الكرد شعب عريق لديه وحدة الأرض واللغة والعادات والثقافة والإرادة، كما لديه تجربة الكفاح السياسي والعسكري والوعي القومي، وهو ما يجعل من الأهمّية عربياً فهم هذه الإرادة من أجل بناء علاقة تاريخية مع الكرد، علاقة تخدم الشعبَين على أساسٍ من التعاون والاحترام المتبادل، على شكل الانتصار لإرادة واحدة في التطلّع إلى قضايا المنطقة، ومجمل ما سبق يتطلّب حواراً مفتوحاً صادقاً، تطلّعاً إلى تحقيق ما سبق.

نشرة أفق الألكترونية (تصدر عن مؤسسة الفكر العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى