نوافذ

الكسورُ لا تصيبُ العظام وحدها!

اليمامة كوسى

في صباح ذلك اليوم كان وصولي أبكر قليلاً من الموعد المحدّد لدروسنا السريريّة في الجراحة العظمية أمراً اعتياديّاً، فنظريتي المعهودة في حضور الدروس رغم كونها تُقابَل لدى البعض بشيء من الاستهجان تقول بأنني إمّا أن أحضرَ الجلسة من البداية للنهاية وإمّا ألّا أدخلها نهائيّاً..

أخذت أفكّرُ بيني وبين نفسي إن كان هؤلاء البعض سيكفّون عن نقاشاتهم الخاسرة معي بشأنها فيما لو علموا بأنها تتشعّب في رأسي لما هو أبعد بكثير من حضور محاضرة ما لأحد مقرّرات كلّيّتنا!

في جميع الأحوال؛ لم يثر في داخلي ذلك التفكير سوى ابتسامةٍ بسيطة لا تزال جميع الأمور عندها اعتياديّة أيضاً.

جلستُ في حديقة المشفى على أحد المقاعد الحجريّة التي تزيّن فناءه الخارجيّ البهيّ، وأخذت أخمّنُ نوع الشجرة التي أتفيّأ بظلّها الوارف إن كانت مشمشاً أم نوعاً آخر.

وإلى الآن بدا كلّ شيء اعتياديّاً أيضاً..

ولبرهةٍ قصيرة لاحظت أنّ دوائر الشمس الصغيرة التي كانت تتسلّل من بين الفراغات التي تصنعها أوراق الشجرة بقربي قد انحجبت عنّي تماماً، وعندما التفتتُّ لاحظتُ أنّ رجلاً أربعينيّاً طويلاً أثلجت سماءُ المشّيب على رأسه لوقتٍ ليس بطويلٍ كان قد مرَّ من أمامي وجلس على المقعد الذي في الجوار.

جلس حانياً رأسهُ إلى الأرض، ومرفقاه مستندان إلى ركبتيه، ولم يتعدَّ الأمر حدود الاعتياديّةِ التي عمَّت صباحي ذلك اليوم إلى أن رفع ذلك الرجلُ كفّيه إلى وجهه وبدأ يبكي بحرقةٍ ما كانت لتكون مسموعةً لو لم أكن منتبهةً إليه منذ عبوره أمامي!

أن يبكيَ رجلٌ في ذلك العمر وبتلك الطريقة المؤجّجة لمشاعر الحجر الذي يجلس عليه وليس فقط لمشاعر كلّ مَن يراه؛ ذلك لم يكن اعتياديّاً إطلاقاً!

كان صادماً ومُحزناً ومؤثّراً إلى الدرجة التي تجعلني أخجل من الكتابة عن دموعه الآن بحروفٍ صمّاء خرساء لن تستطيع أن تكونَ ولا حتى منديلاً هزيلاً أمام ذلك السّيل الجارف من الأحزان الذي غمره.

أهوَ مرضٌ أبلى جسد عزيزٍ عليه؟ أم موتٌ التهمَه بالكامل؟

أم يا تُرى هي نتيجة تحليل مخبريّ يخصّه لبضع قطرات من الدماء كانت كفيلة بأن تُنهي كل لحظة تسبقها وكل لحظة تتلوها؟!

لا أزالُ لا أعلم السبب، ولكن ما أعلمه بأنني لم أستطع أن أدفع دماغي لتفكيرٍ أقلّ سوداويّة وقساوة من الاحتمالات الثلاثة المؤسفة تلك..

تراءت إلى ذهني حينها تلك المنحوتة الشهيرة المصنوعة من البرونز التي تقع على ضفاف بحيرة جنيف في سويسرا والتي ابتكرها الفنّان “ألبرت جيورجي” بأصابعه العبقريّة التي غاصت في أعماق النفس الإنسانيّة وجبلتها على هيئة انحناءةِ رأس التمثال نحو ذلك الفراغ العميق الذي يقبع بداخله ويمنعه من النظر أو التفكير بأي شيء آخر سواه!!

قد يكون ذلك الفراغ فقداً مفجعاً… خيبةً مريرة…خسارةً جسيمة في إحدى معارك الحياة المصيريّة..

لكنّ العامل المشترك بينها هو تلك الهوّة الشاسعة من الحزن الذي ينهش روح الإنسان بضراوة، ولا فكاكَ من بين براثنه دون آثار جروح أو ندبات.

قلت لنفسي: يا للعجبِ كيف يمكن للفنّ أن يرى ما يعترينا من مشاعر بتلك الشفافيّة الصارخة!!

فلا يمكن لأحد أن ينظر إلى تلك المنحوتة إلا وأن يشعر بانكسار ذلك الرجل الذي تمثّله، فلا بدّ وأنّه إنسانٌ فقد الكثير قبل أن يثني رأسه المثقل بالآلام و يجلس جلسته تلك على حافّة ذلك المقعد الحجريّ في إحدى الحدائق العامّة!

وأمّا لمن يسأل عمّا حدث لاحقاً، ففي الوقت الذي كنت فيه أفكّر إن كان جديراً بي أن أذهب إليه وأُكلّمه أم أدعهُ وحيداً مع فراغه؛ قَدِمت سيّدة تبدو قريبته وجلست إلى جواره وأسدلت كفّها الحانية على كتفه فمسح وجهه بكلتا يديه وفرك عينيه الدامعتين وأخذا يتحدّثان…

وأمّا أنا فذهبت إلى درسي ا

لمعتاد وأنا أُفكّر بأنّ الكسور لا تصيبُ العظام وحدها!.

 

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

 

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على الفيسبوك

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على التويتر

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى