اللعب بأعشاش الدبابير

 

المزايدة باسم الحريات الفردية والقضايا الحقوقية والمدنية، قديمة قدم العمل السياسي والصراعات الحزبية. ويظهر هذا البازار الفاضح في خضم الحملات الانتخابية، وبشكل فاقع، في البلدان الديمقراطية قبل غيرها، ذلك أن ليس بالخبز وحده تحي المجتمعات التي تقدّر ثمن الحرية والكرامة البشرية، لكن المشكلة تصبح أكثر تعقيدا في مجتمعات لم تحسم أمرها وفي بلدان حديثة العهد بالحريات مثل الديمقراطية الناشئة في تونس التي تقف أمام استحقاقات أولها حل مشاكل الفقر والبطالة التي هي ” أم الكوارث والأزمات” الاجتماعية، من التفكك الأسري إلى الجريمة المنظمة وقضايا التطرف والإرهاب.

لا يختلف اثنان في أن التنقيحات الدستورية وسن القوانين التي تخدم قضايا المساواة والحريات، هي أمور تهلل لها الفئات المتنورة والأوساط الحداثية، كما أنها ترضي الجهات الغربية، لكن هذه التطويرات التشريعية لا تعني الفئات الفقيرة والمسحوقة في شيء، ذلك أنها ليست أكثر من حبر على ورق أمام الأولويات المعيشية والمستحقات الاجتماعية الأخرى.

ماذا يعني قانون المساواة في الميراث دون وجود إرث من أساسه؟ إنه لنوع من العدمية أن يتساوى الرجل والمرأة في حق غير موجود، وتغيب أسباب ووسائل تحصيله مثل القول بأحقية التملك أو الزراعة والإعمار في كوكب المريخ.

بعض القضايا الواردة في تقرير الحريات الفردية والمساواة، المثير للجدل في تونس، تأخذ طابعا استفزازيا في مجتمع محافظ يشكل الدين فيه فضاء اجتماعيا وثقافيا بل مرجعية لغالبية النشاطات البشرية وإن كان بصورة ” متونسة” تعطي نوعا من الخصوصية ذات الطابع الاحتفالي والفولكلوري.

هذه الوسطية الحميدة التي تميز الإسلام الشعبي في تونس هي مهددة اليوم بالزوال ومرشحة للانقلاب إلى نقيضها حين يأتي من يستفزها بكل ما من شأنه أن يوقظ روح الفتنة فينهض عندئذ أصحابها غاضبين ومحتجين باسم الذود عن قيم الدين والمجتمع.. ونخسر بذلك أصحاب الإسلام الشعبي لصالح أصحاب الإسلام السياسي.

حتى الديمقراطيات العريقة في أوروبا ما زالت إلى حد الآن تقف بحذر شديد أمام بعض المطالب التي تعتبرها مشطّة أو مخالفة لمبادئ الأسرة وجملة القيم الروحية والاجتماعية والأخلاقية فتسمح لأصحاب تلك المطالب بالتظاهر والتجمهر بشكل شبه علني، ودرء للعين كما يقال، ولكي لا تتهم هذه النظم بالتنكر للقيم الديمقراطية والعمل ضد دساتيرها ومواثيقها.

مراقبون للوسط الحقوقي والمجتمع المدني في تونس يصفون غلاة المطالبين بالحريات الفردية والمساواة في تونس ب ” مراهقي الديمقراطية “ لأن هؤلاء بالغوا في مطالبهم إلى حد الشطط والاستفزاز عبر إيقاظ كل ما هو نائم من الحريات الصغيرة والكبيرة، العادية والشاذة، حتى أنهم يصنفون بعض الأهواء والنزوات المنسية والمهملة والغريبة في خانة الحريات الفردية التي ” بدونها يهلك المجتمع وتستحيل الحياة”.

 تقول العامة ” كل شيء في وقته حلو” فليس من الحكمة أن نتحدث عن فوائد تناول الكافيار في بلد يشقى أهله في تحصيل رغيف الخبز كما أن اختيار التوقيت يثير أكثر من سؤال، وفي الاتجاهين السلبي والموجب، إذ وفي الحالة التونسية التي تعاني من احتقان سياسي وشعبي كبيرين، يطرح السؤال نفسه: لماذا الآن، والتحضيرات المبكرة لانتخابات 2019 قد بدأت قبل أوانها؟ وتحصن فريق مع شعارات حقوقية هي في مجملها لا تضيف شيئا لمنجز تشريعي كان قد تم منذ عهد الزعيم الحبيب بورقيبة في قانون الأحوال الشخصية، وفي المقابل، تحصن فريق آخر خلف شعارات الذود عن الدين والقيم الاجتماعية، وكأنما المجتمع التونسي قد اعتنق الإسلام في عهدهم، ولولا وجودهم لكان الناس في ضلال مبين.وبين هذين الفريقين المزايدين بشعر يشبه عملة ذات وجهين، يتهاوى المخدوعون والمغفلون، و” تضيع الطاسة” كما تقول العامة، ونعلم بعد فوات الأوان أن الأمر مجرد ” اتفاق على الخلاف”، واستثمار في وضعية المرأة التي مازالت تعاني قسوة العيش مع زوجها وأخيها وابنها وأبيها أي أن المرأة والرجل متساويان فعلا، ولكن في الفاقة والحرمان والتهميش.

الزعيم بورقيبة الذي صارت تزايد باسمه جميع الأطراف بما فيهم الإسلاميون عندما يحاججون خصومهم من حزب نداء تونس أو غيرهم من الليبراليين، هو نفسه الذي اعتمد سياسة اختيار التوقيت المناسب في إطلاق موضوع حرية المرأة، وسبّق عليه موضوع الكفاح الوطني ضد الاستعمار فيما يُعرف بسياسة المراحل التي اشتهر بها بورقيبة.

وكان الحبيب بورقيبة قد عارض في العشرينات من القرن الماضي نساء تونسيات طالبن بالمساواة مع الرجال مثل حبيبة المنشاري ومنوبية الورتاني وفاطمة بن مراد وغيرهن، وقال لهن: إن المرحلة السياسية لا تسمح، نأخذ الاستقلال ومن ثمة نطالب بالحريات والمساواة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى