بلا حدود

اللغة الدبلوماسية وحدودها بين الدفاع بالكلمات والعمل بالأفعال

ماهر عصام المملوك

منذ أن تشكّلت العلاقات الدولية بصورتها الحديثة، برزت الدبلوماسية كفنّ للتواصل بين الدول والشعوب، تسعى من خلالها الحكومات إلى الدفاع عن مصالحها وصون حقوقها بالوسائل السلمية.

اللغة الدبلوماسية، بمصطلحاتها الدقيقة وعباراتها المنسَّقة، أصبحت أداة مركزية في صياغة المواقف، ووسيلة للتأثير في الرأي العام الدولي، وأداة للتفاوض حول قضايا معقّدة تتعلق بالسيادة والحقوق والموارد. ومع ذلك، ورغم أهميتها القصوى، تكشف التجارب التاريخية والواقع المعاصر عن محدودية اللغة الدبلوماسية عندما تُستخدم بديلاً عن الفعل السياسي أو العسكري أو الاقتصادي،إذ قد تتحول من وسيلة للتأثير والضغط إلى غطاء للعجز والضعف، مما يُضعف قدرة الدول أو الجماعات على الدفاع عن حقوقها فعلياً.

فاللغة الدبلوماسية تقوم على اختيار دقيق للألفاظ، بما يحقق موازنة بين المصالح المتضاربة. فهي لغة غير مباشرة، حريصة على تجنّب القطيعة، وتُبنى على مبادئ الاحترام المتبادل وعدم التصعيد. فمصطلحات مثل «قلق بالغ»، «إدانة شديدة»، أو «دعوة إلى ضبط النفس» صارت جزءاً من القاموس السياسي العالمي. هذه اللغة، حين تُستخدم بإتقان، تمنح الدولة أو المنظمة الدولية مظهراً من الاتزان والمسؤولية وتتيح لها كسب الوقت أو بناء تحالفات أو ممارسة ضغوط ناعمة دون اللجوء إلى القوة.

لكن هذه الميزة تصبح عبئاً حين تتحوّل الدبلوماسية إلى بديل كامل عن السياسات الفعلية. فالكلمات مهما كانت بليغة لا تحمي حدوداً، ولا تصون موارد، ولا تمنع عدواناً إذا غابت القدرة على الردع أو الفعل الملموس.

تاريخياً، شهد العالم عشرات المواقف التي اكتفت فيها دول أو منظمات بالبيانات والتصريحات دون خطوات عملية. أمثلة ذلك واضحة في الصراعات الطويلة في فلسطين، أو حروب البلقان في التسعينيات، أو حتى في النزاعات الأفريقية الحديثة. هذه البيانات عادةً ما تبدأ بصيغ مكررة: «نستنكر»، «نرفض»، «نطالب»، «ندعو إلى وقف»، ثم تنتهي دون أثر ملموس على أرض الواقع.

هذا النمط من السلوك يخلق فجوة خطيرة بين الشعارات والواقع، إذ يرى الرأي العام أن لغته الرسمية لا تتجاوز المواقف الأخلاقية النظرية. مع تكرار ذلك، تفقد الدبلوماسية قيمتها كأداة ضغط، وتتحول إلى غطاء للجمود أو للعجز، بل أحياناً إلى ذريعة تبرّر تقاعس القوى الكبرى أو المجتمع الدولي عن التدخل لحماية المدنيين أو الدفاع عن حقوقها فعليا.

وفي حالات كثيرة، تُستخدم المراوغة الدبلوماسية تكتيكاً مشروعاً لكسب الوقت أو إعادة ترتيب الأوراق. لكن حين يصبح ذلك هو الاستراتيجية الدائمة، تتحوّل المراوغة إلى سياسة ضعف تُعرّي موقف صاحبها. إذ يكتفي البعض ببيانات الاستنكار والرفض ليظهر أمام جمهوره الداخلي بمظهر المدافع عن الحقوق، في حين أن أفعاله على الأرض قد تكون منعدمة أو متناقضة مع خطابه. هذه الازدواجية لا تقنع الخصوم ولا تكسب الحلفاء، بل تضعف الثقة في جدية الفاعل السياسي.

إن الاعتماد المفرط على البلاغة الدبلوماسية قد يُطمئن النخب السياسية داخلياً لكنه يبعث برسالة معاكسة إلى الخارج: أن صاحب الموقف عاجز عن الفعل. هذا يفتح الباب أمام الخصوم لتوسيع نفوذهم أو فرض وقائع جديدة على الأرض لأنهم يدركون أن رد الفعل لن يتجاوز حدود البيانات.

ورغم كل ما سبق، لا يمكن إنكار أن الدبلوماسية تظل أداة لا غنى عنها في إدارة النزاعات وبناء التحالفات وصياغة المعاهدات. لكنها يجب أن تعمل في إطار منظومة شاملة تضم أدوات القوة الصلبة (عسكرية أو اقتصادية) والقوة الناعمة (ثقافية وإعلامية). على سبيل المثال، كثير من الدول الصغيرة نجحت في حماية مصالحها ليس فقط عبر خطابها الدبلوماسي، بل أيضاً عبر بناء تحالفات استراتيجية أو رفع قضايا أمام محاكم دولية أو توظيف نفوذ اقتصادي واستثماري للضغط على الأطراف الأخرى.

هنا يظهر الفارق بين دبلوماسية نشطة تستند إلى موارد فعلية، ودبلوماسية شكلية تحاول تعويض غياب هذه الموارد بالكلمات فقط. الأولى تؤثر وتفرض حضوراً، والثانية تنحصر في بيانات صحفية وتوصيات غير ملزمة.

في عصر الإعلام الرقمي، أصبح الجمهور العالمي أكثر قدرة على كشف التناقض بين الأقوال والأفعال. فبيانات الشجب والرفض تُقابل على الفور بصور مباشرة من مواقع النزاعات والضحايا. هذه الفجوة تجعل الخطاب الدبلوماسي التقليدي أقل إقناعاً من أي وقت مضى. لذلك باتت الدول والمنظمات تُواجه ضغوطاً أكبر لإقران كلماتها بأفعال ملموسة، سواء في شكل مساعدات إنسانية، أو عقوبات اقتصادية، أو تحرّكات قانونية، أو حتى تدخلات ميدانية محدودة.

فالتحدي الأكبر اليوم يكمن في تطوير «دبلوماسية واقعية» لا تكتفي بالشعارات الأخلاقية، بل تضع خططاً عملية للتنفيذ. هذه الدبلوماسية تقتضي شفافية مع الجمهور الداخلي، ووضوحاً في الأهداف، وربط كل بيان سياسي بخطوة ملموسة. على سبيل المثال، إذا أصدرت دولة أو منظمة موقفاً يدين انتهاكاً ما، فيجب أن تضع على الطاولة إجراءات اقتصادية أو قانونية أو سياسية لدعم ذلك الموقف.

كذلك، تحتاج الدول النامية إلى بناء أدوات قوة موازية — اقتصادية أو تكنولوجية أو تحالفية لتعزيز أثر خطابها الدبلوماسي، حتى لا يتحوّل ذلك الخطاب إلى مجرد أصوات في فراغ.

وخاتمةً الكلمات وحدها لا تكفي فاللغة الدبلوماسية، مهما بلغت من الإتقان والبلاغة، ليست سوى أداة ضمن أدوات السياسة الدولية. حين تستخدم بكفاءة إلى جانب الفعل الملموس، يمكن أن تكون جسراً للحلّ، ورافعةً للحقوق، وضمانةً لتوازن القوى. أما حين تتحول إلى بديل عن العمل، فإنها تفقد قيمتها وتصبح انعكاساً للضعف بدل أن تكون تعبيراً عن القوة.

إن الدفاع عن حقوق البشر والمواطن والوطن والأمة يتطلّب أكثر من بيانات استنكار أو رفض أو مراوغة لغوية. يتطلّب استراتيجية شاملة تجمع بين القول والفعل، بين الضغط الدبلوماسي والخطوات العملية، بين الخطاب الأخلاقي والقدرة الواقعية على تحقيق النتائج. بهذا المعنى، لا يكون القول بديلاً عن الفعل بل شريكاً له، ولا تتحول الدبلوماسية إلى غطاء للعجز بل إلى أداة لتحقيق العدالة وحماية الحقوق.

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على الفيسبوك

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على التويتر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى