اللغة… دردشة خارج اللعبة!
الغريب أن قائل الجملة التالية، ليس كاتباً، ولا مفكراً، ولا عالم أركيولوجي متخصص بالمسمارية أو الهيروغليفية:
” اللغة أهم مقتنيات الإنسان”
القائل: ملاكم من الون الثقيل.
في الملاكمة: العينان أهم من القبضة التي تخطف نوايا الخصم من العين. فتستبقها بحركة دفاع. ولكي، أنت بعينين بصيرتين سريعتين، ترمي إليه فكرة الخداع، وشعاع المراوغة، فتغدو، في لحظة خاطفة، سارق النصر.
بعد التقاعد، بسبب كسر الفك، وارتخاء العضلات، وبضعة هزائم متلاحقة، يصبح الملاكم متشهياً للحياة، ومنتبهاً إليها من زوايا عطاياها… ينسى الحلبة. والصيحات الفاجرة لتمجيد انهمار الدم من أنف، وانطراح الجسد من علياء العضلات. وتصبح اللغة هي ما يوجد في كتاب، أو في حوار، واللغة التي يتراشق بها الناس، في خفة أو غضب أو فرح، عصافير ملونة، وبهاء غامضاً في الخيال.
” اللغة أهم مقتنيات الإنسان”، ذلك أعرفه أيضاً، دون أن ألاكم في حلبة أحداً، ولكن جملة ذلك الملاكم نبهتني إلى فكرة السلام الذي تبثه الكلمات عندها ننثرها في حب، ونقولها في شغف ، ونلوّتها في العينين إرسالاً واستقبالاً.
راقبت كثيرين ممن لديهم السلطة، وممن لديهم المال، وممن لديهم أشياء أخرى تنطوي على احتمالات البطل. ووجدتهم جميعاً ” فقراء” في لحظة اللغة. إنهم يريدون اختراع جملتهم التي تميزهم بما لديهم فيتأتى ويتلعثم الجر وباء الحب ونون النسوة، وتسقط جملة هنا في التصفيق المغشوش، وجملة هناك أمام الموت… وثمة لغة ميتة في فم حي مفتوح! ولا يقيم هؤلاء في اللغة أبداً.
” اللغة بيت الكائن”
أيضاً، فيها يقيم الإنسان، حلماً وواقعاً ووداعاً، وبها يستعين على الوهم، وفيها تستطيع أن تؤكد قوة المعرفة التي جعلت الإنسان الصامت عبقري اكتشاف الدلالات بدلاً من مهارة إطلاق الصرخات!
وحده طائر البجع، عندما يموت ، يظل صوته لـدقائق ممتداً في الفضاء كمزمار ينهي لحناً … ذلك لأن له عنقاً طويلاً لكي يؤدي به ما ســماه الشعراء: الأغنية الأخيرة للبجعة!
مرة أراد “كسرى ملك الفرس أن يطلع على بعض الشعر العربي، فترجموا له مطلع قصيدة للأعشى:
أرقتُ وما هذا السُهادُ المورقُ وما بي من سقمٍ وما بي معشقُ
فقال كسرى: إن كان هذا قد سهر لغير سقم ولا عشق، فما هو إلا…لص!
ونعرف تلك المحاورة الشهيرة بين الشاعر” ابو تمام” وخصومه حول: لماذا لا تقول ما يفهم؟ (إشارة إلى قوله):
لا تسقني ماء الملام فإنني صبّ قد استعذبت ماء بكائي
ـ تفضل اعطني قطرة من ماء الملام.
فرد أبو تمام: تفضل اعطني ريشة جناح الذل (إشارة إلى الآية الكريمة) ” واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيراً..”
لماذا لا تفهم ما يقال؟
ثمة حاجة يبلغها أحياناً القارئ ـ الملاكم … حين ينتقل من القراءة إلى محاكاة ما يقرأ… وقد جاء كاتب فتى إلى برنارد شو وقال له: أنا أكتب من أجل الشرف… فيما تكتب أنت من أجل المال.
فأجاب برنارد شو: كل يبحث عما ينقصه!
” اللغة بيت الكائن”…، ربما كانت الكتابة والنار أهم اختراعين قديمين، يوازيهما اختراعان عصريان هما الموبايل وسـلة المهملات : الموبايل للذاكرة، وسلة المهملات… للنسيان!