اللوبي الصهيوني «يدرّب» المسؤولين الأميركيين: هكذا تبرّرون حرب الإبادة على غزّة
نزار نمر
مع دخول حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزّة المحاصر شهرها السادس، يستمرّ تكشّف الأكاذيب الصهيونية تباعاً، وينفضح دور الغرب الجماعي في نشر هذه الأكاذيب على نطاق واسع يبرّر حرب الإبادة. آخر فصوله عكوف مجموعتَين تابعتَين للّوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة، على تدريب مسؤولين أميركيّين منتخبين على كيفية مقاربة حرب الإبادة المستمرّة و«السبل الأنجع» لتبريرها بالاستناد إلى دراسات أجراها الباحث الجمهوري فرانك لونتز و«توصياته» بشأن السردية
منذ عملية «طوفان الأقصى» في السابع من تشرين الأوّل (أكتوبر) الماضي، سارع الغرب بإعلامه ومؤسّساته وأدواته إلى تصوير المقاومة الفلسطينية على أنّها «منظّمة إرهابية ارتكبت جرائم بحقّ المدنيّين»، وكان تركيز كبير على اتّهامها بـ «الاغتصاب» و«قطع رؤوس 40 طفلاً»، في اتّباع وقح وأعمى للسردية الإسرائيلية.
راح الإعلام الغربي ينسج التقارير المفبركة حول جرائم المقاومة المزعومة، إلا أنّ الرياح لم تسر كما يشتهيه، إذ كان عصر مواقع التواصل له بالمرصاد. هكذا، فُضحت طرق عمل المؤسّسة الدعائية الجماعية في الغرب، فتبيّن أنّ مصدر الادّعاءات الكاذبة في الإعلام الغربي هو جمعيّة ZAKA الصهيونية التي أوكلها جيش الاحتلال بجمع رفات قتلاه («الأخبار» 4/3/2024).
وتبيّن أنّ CNN تتصرّف بطريقة منحازة بناءً على توجيهات رئيس تحريرها ورئيسها التنفيذي الصهيوني الهوى مارك تومسون («الأخبار» 7/2/2024)، وأنّ جندية في الهاسبارا كتبت تقارير لصحيفة «نيويورك تايمز» («الأخبار» 28/2/2024)، إضافة إلى أمور كثيرة أخرى بما فيها تخلّي مؤسّسات مثل «هيئة الإذاعة البريطانية» عن موظّفيها بسبب منشورات مؤيّدة لفلسطين، وتجاهل وسائل إعلام كبيرة تقارير «الأمم المتّحدة» مقابل تبنّيها تقارير لمراكز أبحاث إسرائيلية مبنيّة على تقارير هذه الوسائل نفسها غير المستندة إلى دليل («الأخبار» 27/2/2024 )!
أحدث فصول هذا التحيّز الممنهج ما نشره أخيراً موقع «ذا غرايزون» الاستقصائي الأميركي حول اعتماد مجموعتَين تابعتَين للّوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة على أبحاث أجراها الباحث الجمهوري (الصهيوني) فرانك لونتز لتدريب مسؤولين أميركيّين منتخبين على «السبل الأنجع» لتبرير حرب الإبادة أمام جماهيرهم.
يتّضح في التقرير الذي أعدّه الصحافي ماكس بلومنتال، أنّ هناك عبارات محدّدة تمّ «النصح» بعدم استخدامها، في مقابل أخرى «يُستحسن» استخدامها. على سبيل المثال، يرد في التقرير أنّ لونتز نصح باستخدام تعبير «الإسرائيليّين» بدلاً من «إسرائيل»، والتركيز على أنّ «حماس هي داعش» وأنّها (أي حماس) ارتكبت جرائم اغتصاب.
كذلك، يلاحظ لونتز أنّ هناك كلمات معيّنة تطرب آذان الجمهوريّين في مقابل أخرى مخصّصة للديموقراطيّين. مثلاً، يستخدم الجمهوريّون عبارات مثل «القضاء» و«المحو» (في إشارة إلى غزّة)، في مقابل تفضيل الديموقراطيّين عبارات أكثر «تعقيماً» مثل «تحييد» (المشكلة).
تقرير بلومنتال اعتمد على مصدر كان حاضراً في جلسات إحاطة خاصّة عقدتها في نيويورك مجموعتان من اللوبي الصهيوني في الولايات المتّحدة، هما «اتّحاد UJA» و«مجلس علاقات المجتمع اليهودي». وقدّم المصدر لبلومنتال عروضاً (presentations) من إعداد فرانك لونتز عُرضت في الجلسات، أُبلغ الحاضرون بأنّها سرّية جداً، وتمحورت حول «كيفية التأثير على الرأي العام لمصلحة الهيجان العسكري الإسرائيلي في غزة».
وفي محاولة من «ذا غرايزون» لأخذ تعليقه منه حول الجلسات، أتى جواب لونتز مقتضباً: «هذا لا يفيد». ويذكر التقرير أنّ «العروض التقديمية التي اختبرها لونتز حول الحرب في غزّة، تحثّ الساسة على تجنّب التباهي بالقيَم الديموقراطية الأميركية المفترضة مع إسرائيل، والتركيز بدلاً من ذلك على نشر «لغة الحرب مع حماس».
وفي هذا الإطار، يجب استخدام لغة تحريضية لتصوير المقاومة الفلسطينية على أنّها «منظّمة كراهية وحشية وهمجية» قامت بـ«اغتصاب النساء»، مع الإصرار على أنّ إسرائيل منخرطة في «حرب من أجل الإنسانية»». وينصح لونتز: «تجنّبوا الحديث عن الحدود بخصوص ما قبل عام 1967 أو بعده، لأنّه لا يؤدي سوى إلى تذكير الأميركيّين بتاريخ إسرائيل العسكري. بشكل خاصّ لليسار، هذا يؤذيكم».
ويكمل تقرير «ذا غرايزون» أنّه في إحدى مجموعات التركيز (focus group)، طلب لونتز من المشاركين تحديد أيّ تصرّف مزعوم قامت به «حماس» في 7 تشرين الأوّل 2023 «يزعجكم أكثر». وبعدما عرض عليهم قائمة طويلة من الفظائع المزعومة، كانت نسبة الانزعاج الأكبر من ادّعاء أنّ «حماس اغتصبت مدنيّين».
ويشير التقرير إلى أنّ هذه الادّعاءات دفعت ببعثة «إسرائيل» لدى الأمم المتّحدة إلى إطلاق حملة مسعورة في كانون الأوّل (ديسمبر) الماضي، بدأت بخطابات ألقتها الأوليغارشية النيوليبرالية شيريل ساندبرغ، ووزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون التي تتلقّى مئات آلاف الدولارات من اللوبيات الإسرائيلية كتبرّعات أو مقابل إلقائها خطابات.
مع ذلك، لم تتمكّن الحملة بعد من تحديد ضحية واحدة تعرّضت للاعتداء الجنسي من «حماس»، ولم يتضمّن تقرير 5 آذار (مارس) الذي أعدّته الممثّلة الخاصّة للأمم المتّحدة المعنية بالعنف الجنسي براميلا باتن شهادةً حيّة واحدة عن أيّ اعتداء جنسي خلال عملية «طوفان الأقصى».
علاوةً على ذلك، قال فريق باتن إنّه لم يعثر على «أيّ دليل رقمي يصوّر على وجه التحديد أعمال عنف جنسي». وبهدف شيطنة الفلسطينيّين، ينصح لونتز بأنّ «أفضل ردّ لإسرائيل هو قيام أطفال «حماس» مغسولي الأدمغة ببثّ الكراهية تجاه اليهود (وليس فقط إدانة الإسرائيليّين) بكلمات لا يعرفون معناها ولا يمكنهم حتى لفظها»، بطريقة تصوّر الأطفال في غزّة كأدوات جاهلة في يد «حماس»، ما يخدم تشتيت الانتباه عن المذبحة الإسرائيلية المستمرّة.
ومن أجل تثبيت السردية الصهيونية، يوصي لونتز الأطراف المؤيّدة لـ«إسرائيل» بتجنّب «اللغة الإبادية» التي يستخدمها المسؤولون الإسرائيليون الذين دعوا، على سبيل المثال، إلى «محو» سكّان غزة، والدعوة بدلاً من ذلك إلى «نهج فعّال» للقضاء على «حماس».
ويعتبر لونتز أنّ الناخبين الجمهوريّين (في الولايات المتّحدة) يفضّلون عبارات تحمل في طيّاتها مستويات قصوى من العنف مثل «القضاء» و«المحو»، بينما تجذب الديموقراطيّين مصطلحات «معقّمة» مثل «تحييد». وقد أظهر المرشّحان الرئاسيّان الجمهوريّان نيكي هايلي (انسحبت من السباق أخيراً) ودونالد ترامب خطاباً مركزياً مماثلاً عبر دعوتهما إلى «الإجهاز عليهم» و«إنهاء المشكلة» في غزّة.
وكما في ندوات سابقة للّوبي الإسرائيلي، حثّ لونتز الأطراف المؤيّدة لـ«إسرائيل» على الابتعاد عن الحجج المتعلّقة بالاحتلال العسكري الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، عبر اعتماد شعارات مبتذلة مثل: «للإسرائيليّين الحقّ في الدفاع عن أنفسهم».
يعلن لونتز في إحدى صفحات عرضه أنّ «الأمر يتعلّق بالإسرائيليّين، وليس بالأرض». في صفحة أخرى، يعلن أنّ «حماس هي داعش». ويلمّح إلى أزمة علاقات عامّة تواجهها أطراف اللوبي الإسرائيلي في الأشهر الأخيرة، معتبراً أنّ «هجوم الإسرائيليّين على إسرائيل هو ثاني أقوى سلاح ضدّ إسرائيل».
هذا ما جاء في العرض بحسب تقرير «ذا غرايزون»، إلى جانب صورة تظاهرة لمنظّمة «أصوات يهودية من أجل السلام» الأميركية الضاغطة من أجل إنهاء الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين.
وينهي لونتز عرضه بقوله إنّ «التكتيك الأقوى» في حشد المعارضة للهجوم الإسرائيلي على غزّة «هو صور الدمار في غزّة والخسائر البشرية»، معترفاً سهواً بقسوة القصف الإسرائيلي على غزّة، إذ تظهر في العرض صورة مبنى سكني قُصف فيما يفرّ الأطفال والنساء أمامه.
لكنّ لونتز يطمئن الحاضرين إلى أنّ الأمر «يبدو كأنّه إبادة جماعية، لكنّ الأضرار لا علاقة لها بهذا التعريف». ويختم تقرير «ذا غرايزون» معلّقاً أنّه وفقاً لهذا المنطق، يمكن للشعب الأميركي أن يصبح أكثر تسامحاً مع الجرائم الموثّقة بحقّ الإنسانية، إذا قيل له ببساطة ألّا يصدّق أعينه الكاذبة.
من هو فرانك لونتز؟
وُلد فرانك لونتز عام 1962 لعائلة يهودية، وهو مستشار في السياسة والاتّصال ويجري استطلاعات للرأي. هو معروف بعلاقاته بالحزب الجمهوري كما بمواقفه المجاهرة بتأييد الكيان الإسرائيلي. على موقعه الإلكتروني الشخصي، يسوّق لنفسه على أنّه «أحد أكثر الخبراء في الاتّصال تكريماً في أميركا اليوم». كوّن ثروة صغيرة عبر صياغة نقاط حوار لكبار الشخصيات في الحزب الجمهوري الأميركي ولعملاء من شركات ملطّخة بالفضائح مثل «إنرون»، وهي شركة الطاقة التي انهارت بعدما تسبّبت في أزمة طاقة في ولاية كاليفورنيا.
في أعقاب الانهيار المالي بين عامَي 2008 و2009، قدّم لونتز المشورة إلى الحزب الجمهوري بشأن حماية الشركات الكبرى المانحة للحزب من التدقيق.
في المدة نفسها تقريباً، قدّم لـ«جمعية المحافظين الجمهوريّين» المشورة بشأن تقويض حركة «احتلّوا وول ستريت» التي تطالب بالمساءلة عن المخالفات التي ارتكبها القطاع المصرفي. عمل لونتز مستشاراً للوبي الإسرائيلي، منتجاً «قاموساً عالميّاً للغة» لـ«مشروع إسرائيل» البائد الآن في أعقاب الهجوم الوحشي على غزّة بين عامَي 2008 و2009. وفي كتيّب البروباغندا هذا، نصح لونتز «القادة في الخطوط الأمامية من الحرب الإعلامية لمصلحة إسرائيل» بالانسحاب من نقاشات تتطرّق إلى الاحتلال غير القانوني لفلسطين.
صحيفة الأخبار اللبنانية