اللوحات
كلما مات أحد من أصدقائي أتأمل هذين البيتين الملصوقين على طاولة الحياة أمامي، للشاعر العراقي أحمد الصافي النجفي:
أحاول أن أموت بغير وعي مخافة رؤية الموتِ الخطيرِ
ولكنّي أخاف علي نقصاً بحرماني من الدرس الأخيرِ
أمس الأول قررت الذهاب إلى عيادة الدكتورة الصديقة هزار سلامة في دمّر البلد… الذهاب إلى هناك لا لزيارتها أو الاستشارة الطبية كما في الماضي، فهي في ألمانيا منذ عام… وإنما لتنفيذ رغبتها في إزالة اللوحة (الآرمة) عن حاملها عمود الكهرباء، واللوحة الأخرى على باب العيادة. فهي لن تعود، كما تتوقع، لأنها مريضة تصلب لويحي متفاقم لا شفاء منه.
كنت أقول لها: “اصمدي، كالجندي بلا ذخيرة، فلعل الذخيرة تأتي”. لعل العلم يجد دواء لهذا المرض الفظيع، الذي يفتك بكل أعضاء الحركة، ويجعل حتى البطل الإغريقي يحتاج إلى مساعدة في رفع اللقمة إلى الفم.
وكانت تجيبني” “أنا طبيبة وأعرف ما الذي سيأتي” وهكذا تطور مرضها من سيء إلى أسوأ وصولاً إلى العجز الكامل.
أمس الأول لم أذهب إلى العيادة لإزالة اللوحات. قررت الاتصال بها واقتراح ابقائهم، كإشارة إلى ذكرى تلك الطبيبة التي عالجت مئات الأطفال مجاناً. “وإذا ما رحلتِ… بقيت حروف اسمكِ، نقف أمامه، بحب ،ونقرأه كأنه صديق مؤلف من حروف باسمة …كوجهك”.
كان صعباً الاتصال،هاتفيا. وفيما أنا أحاول… رن الهاتف. كان ابنها على الخط يقول لي، بأقصى درجات التمكن من إخفاء الحشرجة: “عمو… الماما ماتت”.
وكان عليّ أن أمسك نفسي من التعثر بنفسي… فصمت، وأكمل هو: جمعتنا أنا وأبي وأختي وصهري وحفيدتها، وقالت: أنا أتألم فوق عتبة الاحتمال، ولا أمل في أي شفاء. صرت عاجزة عن إمساك منديل أمسح به أنفي. وأنتم تتالمون معي…
صمت مّيار قليلاً، ثم أكمل… قالت:
” أرجوكم ساعدوني على الرحيل.
في اليوم التالي…”كانت تغفو. وجهها شاحب، وابتسامتها خفيفة ودون تردد، كان على فناجين قهوة الصباح التي تجمعنا كل يوم… أن تبرد”…تبرد الى الابد !
هكذا أكملت أنا على ورقة نعيي لها، فيما هو يعزيني كتابة:
“أنا قوي مثلما كانت، ومثلك… لا تخف عليّ”.
الآن ،وقد رحلت ،أعلم أن حدسي يعلمني كيف أكسل عن تنفيذ مهمة ما، كما فعلت مع اللوحتين، ويكون الكسل إلهاماً. وعدم التنفيذ إنجازا.
هكذا بقي اسم “هزار سلامة ـ طبيبة أطفال”،على اللوحتين ، يلوح من بعيد… من بعيد جداً “يلوح كالوشم في ظاهر اليد”.