الليرة في لحظاتها الأصعب: «شطحات» الدولار ترفع منسوب القلق
لا حديث يعلو بين السوريين هذه الأيام حديثَ سعر صرف الدولار، وما تبعه سريعاً من زيادات على أسعار مختلف السلع والبضائع، ولا سيما الغذائية. وما لا تقوله الألسنة، تحكيه نظرات العيون «القلقة» في الشوارع والأسواق الشعبية، ويفضحه «غضب» الصفحات الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي، والجميع يسأل: إلى أين نحن ذاهبون؟
ربما ليس بهذا التسارع الذي حدث خلال الأيام القليلة الماضية، إنما كثير من الاقتصاديين كانوا يتوقعون منذ بداية العام أن يستمر سعر صرف الليرة بالانخفاض مقابل الدولار، بالنظر إلى استمرارية الظروف الاقتصادية المؤدية إلى ذلك، وعدم وجود مؤشرات على اتفاق سياسي يمكن أن يلوح بالأفق، وينهي حرباً أنهكت السوريين ومواردهم، وليس أدل على ذلك من ارتفاع معدل الفقر العام في البلاد، ليصل إلى أكثر من 85% بنهاية عام 2015.
في دمشق وأخواتها «الآمنة»، تحكي مشاهد الازدحام أمام بعض منافذ المؤسسة الاستهلاكية، التي كانت تبيع مادة السكر بنصف سعرها لدى تجار السوق، جانباً من إرهاصات الارتفاع «الصاعق» لسعر صرف الدولار، الذي وصل إلى نحو 650 ليرة قبل أن يتراجع بضع ليرات، هذا رغم امتناع المضاربين وتجار السوق السوداء عن بيع أي كمية. لكن ذلك لم يحل دون حدوث موجة غلاء جديدة في الأسواق، ستكون عواقبها دون شك «مدمرة» على الأوضاع المعيشية لشريحة واسعة من السوريين، إضافة إلى ما أشاعته بين العامة من ذعر وقلق شديدين حيال ما قد تحمله الأيام القادمة من تطورات سلبية.
في الأسباب… تحضر الاتهامات
ومع ذلك، فإن مبررات الحكومة والمصرف المركزي لم تخرج عن اعتبار أسعار الصرف المروجة غير حقيقية، وتأتي «ضمن الحملة الشرسة للضغط على الشعب السوري»، إذ بحسب ما أكده أمس حاكم المصرف المركزي الدكتور أديب ميالة، فإن «الارتفاع الحاصل في سعر الصرف خلال الأيام العشرة المنصرمة، الذي تجاوز 100 ليرة سورية غير مبرر على الإطلاق، انطلاقاً من معرفة المركزي بحجم الطلب على القطع الأجنبي، والمعروض منه، وحجم السيولة بالليرات السورية اللازمة لشراء القطع».
الاقتصاديون يفضلون التركيز على وجود ثلاثة أسباب اقتصادية مباشرة لانخفاض سعر صرف الليرة، أولها ضعف الإنتاج المحلي بالنظر إلى القدرات الكبيرة المتوافرة، وثانيها ارتفاع الطلب الداخلي على الدولار لتمويل المستوردات أو عمليات التهريب النشطة، وثالثها محدودية إيرادات الخزينة العامة من القطع الأجنبي مقابل نفقات كبيرة، كما بيّن ذلك وزير المالية أمام مجلس الشعب في وقت سابق. فبحسب الأستاذ في قسم المصارف في كلية الاقتصاد في جامعة دمشق، الدكتور علي كنعان، فإن «السبب الرئيسي لارتفاع سعر صرف الدولار يكمن في زيادة الطلب الداخلي عليه لتمويل المستوردات، فضلاً عن التأثير السلبي الذي تركه مضمون التقرير الأخير الصادر عن البنك الدولي»، والذي أعلن فيه انخفاض احتياطيات سوريا من القطع الأجنبي من نحو 20 مليار دولار قبل الأزمة، إلى نحو 700 مليون دولار حالياً. وفي حديثه لـ«الأخبار» يستبعد الدكتور كنعان أن يكون لطلب المواطنين العاديين على الدولار تأثير كبير في تقلبات سعر الصرف، وهو الأمر الذي رجحه أخيراً رئيس اتحاد المصدرين محمد السواح، عندما اعتبر أن «90% من أسباب هبوط قيمة الليرة أمام الدولار تعود إلى تخوف المواطنين من انخفاضها أكثر مقابل الدولار»، داعياً السوريين إلى «التوقف عن بيع الليرة وشراء الدولار لمدة أسبوع».
وكما هي الحال في كل مرة تخسر فيها الليرة بعضاً من قيمتها، تتعرض إجراءات الحكومة والمصرف المركزي للانتقاد والاتهام بالمسؤولية عما تتعرض له الليرة، بدءاً من استمرار الاعتماد على شركات الصرافة، التي سبق أن اتُّهم بعضُها من قبل المركزي نفسه بالمضاربة على الليرة والتلاعب بالمبالغ المخصصة للتدخل في سوق القطع، إلى القرارات والإجراءات المتعلقة بالاستيراد ومنح إجازاتها وما يثار حولها من إشكاليات وشبهات، إضافة إلى التغاضي عن مواجهة «أمراء» السوق السوداء والتهريب، الذين يحركون سوق القطع كيفما يشاؤون. فيما يحمل رجل أعمال، فضل عدم ذكر اسمه، بعض المصدرين مسؤولية الضغط على سعر الصرف، من خلال توجههم لشراء قطع أجنبي من السوق المحلية، لتسديدها للمصرف المركزي بموجب تعهد التصدير المقدم من قبله.
من جهتهم، لا يجد الصناعيون خياراً لتحسين واقع سعر صرف الليرة سوى بزيادة الإنتاج المحلي، وهذا ما يلخصه رئيس اتحاد غرف الصناعة السورية المهندس فارس الشهابي بقوله: «أسعار الصرف ستستمر بالتدهور إذا لم تتخذ الحكومة إجراءات سريعة وجريئة لحماية الإنتاج ورعايته وتحفيزه، لم يعد لدينا موارد للقطع الأجنبي سوى تصدير إنتاجنا الصناعي والزراعي، خاصة أننا الأن أصبحنا البلد الأرخص صناعياً في العالم»، مضيفاً في حديثه لـ«الأخبار» أن «المطلوب هو حماية المناطق الصناعية من اللصوص، وتأمين الطرقات بين المدن، وطرح مجموعة من التشريعات والقوانين التي ترعى وتحتضن التعافي السريع والإنتاج التصديري ذا القيمة المضافة».
الحل بالإنتاج والتمويل
ورغم أن الانخفاض الأخير دشن لدى البعض مرحلة جديدة من التشاؤم والخوف، إلا أن التفاؤل بقدرة الدولة السورية على مواجهة تقلبات سعر الصرف لا يزال حاضراً، لكنه مشروط بالعمل على تنفيذ استراتيجية مكونة من ثلاث ركائز أساسية هي: العمل على تمويل جميع المستوردات عبر قنوات نظامية تخضع للتدقيق والمحاسبة، وهذا بحسب الدكتور كنعان «إجراء أساسي حالياً لوقف انخفاض سعر صرف الليرة»، وإطلاق العملية الإنتاجية بمختلف مكوناتها لتوفير احتياجات السوق المحلية وزيادة القدرات التصديرية، وثالثاً محاصرة السوق السوداء بمختلف أنشطتها، وملاحقة المضاربين الكبار المؤثرين فعلاً في سوق القطع.
وأعلن المصرف المركزي خلال جلسة عقدها للتدخل في سوق القطع، أمس، أنه «بدأ منذ الصباح بحزمة إجراءات هدفها خفض الطلب على القطع الأجنبي، وزيادة عرض القطع في دمشق وحلب والمحافظات الأخرى»، ومن هذه الإجراءات «إصدار قرار يتضمن إعفاء كل التعهدات المنظمة، التي ستخرج بضائعها من القطر قبل بداية الشهر القادم من إعادة قطع التصدير، إلى جانب إعفائها من كل الغرامات والجزاءات». وكذلك «إلزام جميع شركات ومكاتب الصرافة بشراء القطع الأجنبي، ليصار إلى بيع فعلي وحقيقي لشريحة القطع الأجنبي المطروحة للتدخل من المركزي، بحيث تلزم كل شركة بشراء مليون دولار، وكل مكتب بشراء 100 ألف دولار، تحت طائلة إغلاق الشركة أو المكتب في حال عدم إتمام عملية الشراء قبل الساعة الثانية عشرة ظهراً من اليوم الأربعاء». وأكد المركزي أنه «سيتم استلام الليرات السورية نقداً في المصرف المركزي في دمشق وفرعه في حلب، وسيتم تسليم القطع الأجنبي منهما نقداً، وذلك لتلبية كل الطلبات التي ستقدم لشركات ومكاتب الصرافة»، وهو إجراء بحسب المركزي» مستمر لعدة أيام، ولحين وصول السعر إلى مستويات مقبولة».
صحيفة الأخبار اللبنانية