المأزق الأميركي
لتصريحات الرئيس الأميركي حول إلغائه الضربات التي كانت مقرّرة لثلاثة مواقع في إيران قبل عشر دقائق من تنفيذها، وظيفتان رئيستان. الوظيفة الأولى داخلية، ومُوجّهة إلى قاعدته الانتخابية، هدفها التأكيد أن الرئيس يفعل ما باستطاعته لتجنّب التورّط في حرب جديدة في الشرق الأوسط بعد حروب أفغانستان والعراق. دونالد ترامب، المهجوس بتأمين أفضل الشروط لإعادة انتخابه لولاية ثانية، يدرك التداعيات الكارثية لمغامرة عسكرية كبرى مجهولة النتائج على فرصه في القيام بذلك. الوظيفة الأخرى هي المزيد من الضغط المعنوي والسياسي على إيران لدفعها إلى التراجع عن حزمها، وإبداء الاستعداد للتجاوب مع عروضه للتفاوض. الرئيس الأميركي في ورطة لا يعرف كيفية الخروج منها بعد. هو لا يريد صراعاً عسكرياً مباشراً على الرغم من شروعه في حرب اقتصادية وسياسية وإعلامية ضدّ طهران من أجل إخضاعها لشروطه، التي تعني في الواقع استسلاماً كاملاً من قِبَلها. الصلابة الإيرانية في مواجهة هذا النمط من الحرب، والمبادرة إلى الصدام المباشر مع القوات الأميركية عبر إسقاط إحدى طائراتها، تضعانه في موقف بالغ الصعوبة. ومما يزيد من صعوبة موقفه الانقسام داخل المؤسسة السياسية الأميركية بين مؤيدين لرد فوري على إيران، يتمنى بعضهم أن يفضي إلى مواجهة عسكرية، ومعارضين له بسبب احتمال التدحرج نحو مثل هذه المواجهة. انقاد الرئيس الأخرق خلف سيناريو الضغوط القصوى والتصعيد الذي صاغه مستشاروه، وهو يجد نفسه اليوم في مأزق سبق أن حذّره منه كثيرون.
المعلومات التي رشحت من واشنطن تفيد بأن المشاورات التي باشرها الرئيس الأميركي مع أعضاء الإدارة وممثلين عن الحزبين الرئيسين في الكونغرس بعد إسقاط طائرة التجسس الأميركية، أظهرت وجود رأيين متناقضين حيال الطريقة الأمثل لتعامل الولايات المتحدة مع هذا التطوّر المهم. مستشار الأمن القومي جون بولتون، ووزير الخارجية مايك بومبيو، ومديرة الاستخبارات المركزية جينا هاسبل، أيدوا ردّاً فورياً أميركياً على ما اعتبروه تحدّياً إيرانياً، بينما عارض العسكريون وممثلو «الحزب الديموقراطي» هذا الخيار. الملاحظة الأولى التي ينبغي الالتفات إليها هي اتفاق من بقي من أقطاب الإدارة، أي بومبيو وبولتون، على ضرورة الردّ، وحصول موقفهما على دعم من قِبَل المؤسسة الأمنية الأبرز. الملاحظة الثانية تتعلّق بالمؤسسة العسكرية. ليس سرّاً أن هذه الأخيرة تعارض حرباً كبرى مع إيران، لمعرفتها أكلافها المرتفعة أولاً، ولتناقضها مع ما تعتقده أولويات حيوية للولايات المتحدة، وهي التركيز على التنافس الاستراتيجي مع الصين وروسيا، وتعبئة القدرات والموارد المتوفرة لهذه الغاية أساساً. لكن وزير الدفاع الجديد، الذي عيّنه ترامب يوم الثلاثاء الماضي، مارك إسبر، مقرّب جدّاً من بومبيو، الذي درس معه في أكاديمية «ويست بوينت» العسكرية، وتخرّجا معاً عام 1986. وبحسب مصادر مطّلعة على الشؤون الأميركية، فإن إسبر يشاطر وزير الخارجية عداءه الشديد لإيران. يضاف إلى هذا المعطى أيضاً تناغم آخر من داخل المؤسسة العسكرية مع التوجهات المتطرفة لأقطاب الإدارة حيال إيران، وهو ذلك الذي يعبّر عنه الجنرال كينيث ماكنزي، قائد القوات الأميركية في الشرق الأوسط. وقد أشارت كاثي جيلسينان، في مقال في «ذي أتلانتك»، إلى الدور الذي قام به ماكنزي في الدفع إلى تعزيز الوجود العسكري الأميركي في الخليج بعد الهجوم على ناقلات النفط في الفجيرة، وإلى إعلانه أمام طاقم حاملة الطائرات أبراهام لينكولن: «أنا سبب وجودكم هنا». وذكرت جيلسنان أن كيلي ماغزامن، الذي سبق أن عمل مع ماكنزي في وزارة الدفاع، أكد لها أن الأخير «يصيغ سردية عامة عن التهديد الإيراني، وهو أمر ليس من اختصاص قائد عسكري. أعتقد أن من الخطير إدخال قيادتنا العسكرية في سيناريو محكوم باعتبارات سياسية».
هذه المعطيات تعني أن أوساطاً وازنة في محيط الرئيس وبين حلفائه الإسرائيليين والسعوديين والإماراتيين، ستسعى باستمرار إلى دفعه للصدام مع إيران. تستند هذه الأوساط إلى حقيقة أن التجرّؤ الإيراني على إسقاط طائرة أميركية من دون ردّ سيشكّل ضربة كبيرة لهيبة الولايات المتحدة وموقعها على الصعيد العالمي. ستشجّع هذه السابقة روسيا والصين، وحتى كوريا الشمالية وفنزويلا، على المزيد من تحدّي السياسة الأميركية من دون الكثير من الاكتراث بتحذيرات واشنطن وتهديداتها. وهي ستُفسَّر من قِبَل الحلفاء على أنها دليل ضعف وخوف من الصدام مع إيران، التهديد الوجودي في نظرهم، مما قد يحدو ببعضهم ــــ كإسرائيل ــــ على الإقدام على خطوات استفزازية تعجّل بمواجهة شاملة، أو محاولة التفاوض سرّاً مع إيران، كما يمكن للدول الخليجية أن تفعل إذا اقتنعت بأن الولايات المتحدة ليست في صدد اللجوء إلى القوة ضدها. مشكلة جميع أطراف «حزب الحرب» داخل الولايات المتحدة وخارجها مع الرئيس الأميركي أنهم لا يملكون تصوّراً مقنعاً لمواجهة سريعة وحاسمة مع إيران. لقد كذّب الحزم الإيراني، ووحدة الجبهة الداخلية بين جميع تيارات النظام وبينها وبين الرأي العام، توقعات هؤلاء بإمكانية تراجع الجمهورية الإسلامية تحت ضغط العقوبات القصوى والحشد العسكري والتلويح بالحرب، أو باحتمال حصول تصدّعات في الجبهة الداخلية ووقوع اضطرابات بسبب الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي تفاقمت صعوبتها بعد العقوبات. الرسالة الموجهة من طهران إلى البيت الأبيض واضحة: إيران لن ترضخ للتهديد والضغوط، وهي مستعدّة للمواجهة حتى إذا كانت شاملة. وما يعزّز موقفها في مقابل أميركا عاملان مركزيان، وفقاً للمصادر، وهما امتلاكها استراتيجية واضحة وإرادة قتال دفاعاً عن سيادتها الوطنية ومصالحها الحيوية، بينما يغيب الإجماع في واشنطن حول الاستراتيجية، ولا يحظى خيار الحرب بدعم غالبية الأميركيين.
مع تصاعد التوتر في الخليج، وتعاظم احتمال الحرب، باشرت عدة جهات دولية، بينها اليابان وفرنسا، السعي إلى التوسّط لوقف «التصعيد». لم يتضح حتى اللحظة نجاح أيّ من هذه المساعي. في مثل هذا السياق، ما هي الخيارات المتاحة أمام ترامب، والتي لا تقود إلى حرب كبرى ولا تؤدي إلى تراجعه وفقدان صدقيته؟ يعتقد البعض أن قيام الولايات المتحدة، أو إسرائيل نيابة عنها، باستهداف مواقع إيرانية في سوريا والعراق، وليس في إيران، قد يتيح حفظ ماء وجه الرئيس الأميركي، من دون أن يستدرج رداً إيرانياً. ليس هناك ما يؤكد دقة مثل هذه التوقعات. ولكن، حتى لو صدقت، فإن استمرار سياسة خنق إيران اقتصادياً والحشد العسكري الأميركي في جوارها، يبقيان الوضع في المنطقة على حافة الهاوية.
صحيفة الأخبار اللبنانية