المأزق السوري بين استنقاع العسكرة وتهافت السياسة (طارق عزيزة)

طارق عزيزة

 

الأنباء الواردة من سوريا، التي تتناول «آخر التطورات الميدانية»، لا تختلف كثيراً من حيث الجوهر، وإن اختلفت طريقة صياغة الخبر بما ينسجم مع سياسة الجهة الإعلامية التي تقدّمه، وانحيازها إلى هذا الفريق أو ذاك. فالحرب مستمرة؛ قصف هنا واشتباكات هناك، وتبادل السيطرة على هذه المنطقة أو تلك، مع استمرار الكارثة التي حلّت بالاقتصاد الوطني، وازدياد معاناة مئات ألوف السوريين، الذين شرّدتهم الحرب داخل سوريا وخارجها، وما يرافق ذلك كلّه من حوادث قتل وخطف طائفي لا تنتهي.
الإعلام الداعم للمعارضة المسلّحة يتحدّث باستمرار عن «إنجازات الثوّار» وتقدّمهم على الأرض، وسيطرتهم على مزيد من المواقع. ويكرّر إعلام النظام، ومن ينقل عنه، الأنباء عن اقتراب «الحسم العسكري»، مع تواصل «العمليات النوعية» التي يقوم بها الجيش النظامي للقضاء على «المجموعات المسلّحة». في المجمل، لا يعني ذلك سوى دخول النزاع المسلح في حالة من الركود والاستنقاع، تعكس عدم قدرة كلّ من الطرفين على «حسم» الصراع عسكرياً لمصلحته، رغم تهليل إعلام كل منهما ودعايته.
وبالتوازي مع استنقاع الوضع العسكري، ثمّة في العمق جمود على صعيد إبرام تسوية سياسية، بالرغم من ظاهر التحركات الدبلوماسية، والمباحثات التي يجريها المبعوث الدولي إلى سوريا، الأخضر الإبراهيمي، مع مختلف أطراف الأزمة، من لاعبين محلّيين، أو إقليميين ودوليين. ذلك أنّ ما يُطرح من أفكار ومبادرات لا يزال، إلى الآن، أبعد ما يكون عن تأسيس أرضية صلبة، تضمن توافق مختلف الفرقاء على الشروع الفعلي في تفاوض حقيقي يكبح جماح العنف، ويوقف نزف الدم السوري، ليفتح الباب أمام حلّ سياسي يضع حدّاً للمأساة الإنسانية المتفاقمة التي يعيشها السوريون.
ينبني هذا التقويم على التناقض الصارخ، لدى السلطة والمعارضة على السواء، بين حديث السياسة والتصريحات الإعلامية من جهة، وبين الإصرار على المضي في المواجهة المسلّحة حتى النهاية في الجهة المقابلة، بحيث لا دور للأولى (السياسة) سوى كسب مزيد من الوقت بانتظار ما ستؤول إليه نتائج الحرب، أو في الحد الأدنى تحسين كل جهة لموقعها التفاوضي، عبر تغيير الوقائع على الأرض، إن تطوّرت الظروف إلى حيث يغدو التفاوض المباشر أمراً لا مفرّ منه. على ذلك، وفي غياب الإرادة الحقيقية لوضع السلاح جانباً، يبدو أنّ كل حديث في السياسة مضيعة للوقت، أيّاً يكن المتحدث، من الداخل أو الخارج.
وعلى فرض جرى التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، وهو المدخل الذي لا غنى عنه للبدء بأي عملية سياسية، كيف سيكون التعامل مع عشرات الكتائب المسلحة التي لا تخضع لأيّة مرجعية سياسية، وخصوصاً مع تعدد الممولين والداعمين، أو تلك التي تندرج ضمن تنظيمات السلفية الجهادية، وعلى رأسها جبهة النصرة، أكثر تلك المجموعات تشدّداً، وأهمّها تنظيماً وتأثيراً أيضاً، التي أعلن زعيمها، «الشيخ الفاتح» أبو محمد الجولاني، في كلمة مسجّلة أذيعت نهاية الشهر الماضي، أنّ المرحلة التي ستعقب انهيار النظام هي مرحلة حكم «المجاهدين»، وبشّر الجولاني «أهل الشام»، بأنّه وجماعته، سيواصلون القتال إلى أن ينعم أهل الشام «تحت راية الحق، راية لا إلا الله وتبسط الشورى بينهم».
ولعل مما يزيد من تعقيدات الأزمة الحاليّة، وتهافت الحديث عن «حل سياسي»، أنّ أيّاً من الأطراف لا يتصرّف إلا وفق حساباته الضيّقة، بعيداً عن مصلحة الشعب السوري، الذي يدفع وحده ثمن الكارثة المستمرة التي تعصف به. فالنظام بتركيبته الحالية، لا يبدو أنّه معني بغير الاستمرار بكل الوسائل، غير آبه بأنه شريك في المسؤولية عن كل هذا الدم الذي سال، حتى من منظور روايته عن «المؤامرة والعصابات المسلحة»، فقد فشل في تجنيب البلاد ذلك الخطر، ثم أتبع ذلك بالفشل ثانية عندما لم يفلح في الخروج بها من الأزمة، ما فتح المجال واسعاً للتدخّلات الخارجيّة. كل ذلك يضع مسألة مستقبل النظام، وأهليته للاستمرار في الحكم، موضع شكّ وتساؤل على أقلّ تقدير.
أمّا أطراف المعارضة، فقد احتاجوا من الوقت والجهد، بغية الوصول إلى التفاهم في ما بينهم، أكثر مما فعلوا لتغيير النظام، دون أن ينجحوا حتى الآن في هذه أو تلك. ويفتقر معظمهم، أحزاباً وشخصيّات، إلى القاعدة الشعبيّة الحقيقيّة، نظراً إلى حالة الضعف والتفكك والعزلة عن المجتمع، بسبب ظروف القمع والاضطهاد التي عانتها المعارضة على يد النظام، فضلاً عن ظهور «نجوم معارضة» جدد صنّعتهم أموال النفط وإعلامه، لا همّ لهم سوى مصالح صنّاعهم، وشهوة السلطة. كذلك، إنّ أولئك الذين دعوا إلى العسكرة والتسلّح من المعارضة يتحملون المسؤولية، إلى جانب النظام، عن دماء السوريين ودمار بلادهم، فهل هم من سينجز التغيير الديموقراطي المنشود في سوريا؟
إلى ذلك، ليست ظروف الصراع بين السلطة والمعارضة وحدها ما يمكن أن يفسر صعوبة الوصول إلى تسوية سياسية، وتهافت المبادرات المطروحة، فاللاعبون الدوليّون والإقليميّون الفاعلون في الأزمة يسعون، عبر تدخّلهم، لضمان مصالحهم في ضوء السياسة التي ستنتهجها سوريا المقبلة، دون أن يكترثوا لحجم الموت والدمار الذي يلحق بالبشر والحجر. هؤلاء لا يكفّون عن التصريح بضرورة العمل لإيجاد حلّ سياسي، من دون أن يكفّ أيّ منهم عن تقديم الدعم السياسي والمادي لأطراف النزاع السوري، بما يوافق أجنداتهم، أو حتّى ممارسة ضغوط جدّية تدفع باتجاه التسوية، في واحدة من أكبر عمليات النفاق السياسي في تاريخ العلاقات الدولية. لقد شكّلت انطلاقة الحركة الاحتجاجيّة، قبل نحو عامين، أملاً يعد بخروج سوريا من أزمتها العامّة، التي تعود إلى ما قبل الربيع العربي بعقود طويلة، هي عقود حكم الحزب الواحد، والقمع والتسلّط الأمني والفساد والإفساد الممنهجين. فالاحتجاجات الشعبية كانت محصلة ونتيجة لمشكلات متراكمة، وصلت إلى درجة لم يعد هناك أمام السوريين من بدّ سوى أن يأخذوا زمام أمورهم بأيديهم، ونزلوا إلى الشوارع ليقولوا لهذا الاستبداد: كفى. غير أنّ سلوك النظام والكيفية التي تعامل بها مع الاحتجاجات، منذ أن بدأت في طورها السلمي، من استخدام العنف والقوّة المفرطة لقمع المحتجّين، وعمليات الاعتقال والتعذيب، واجتياح المدن والقرى، دفع قلّة من المحتجّين إلى العنف، بادئ الأمر كردّ فعل على تلك الممارسات.
غير أنّ ما زاد من تفاقم الأوضاع اعتقاد أوساط في المعارضة بعدم إمكانية التغيير في الشارع، عبر التظاهرات وأشكال الاحتجاج السلميّ الأخرى، وأنّ الثورة المسلحة وحدها الكفيلة بتغيير مجرى الأمور، وهو ما لاقى صدى لدى أطراف إقليميّة ودوليّة، سعت إلى استخدام دعاة العسكرة بما يخدم مصالحها، والتي لا تمتّ بصلة إلى انتفاضة الكرامة التي أطلقها ثوار سوريا السلميّون. وبالفعل، أدّت العسكرة إلى تحوّل كبير انتقلت معه أزمة النظام ومأزقه، اللذين بدآ مع انطلاق شرارة الاحتجاجات في سوريا في منتصف آذار 2011، لتصبح أزمة تهدّد وحدة المجتمع السوري، والدولة السورية برمّتها، فهل من فرصة يتدارك فيها السوريون بالسياسة ما أفسدوه بالحرب؟

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى