المأزق المزدوج للتغيير في البلدان العربية (عامر راشد)
عامر راشد
أمام أي استحقاق انتخابي أو سياسي في البلدان العربية، للسلطة أو المعارضة على حد سواء، تبرز معضلة الهلع من التغيير، التي تدحرجت، ككرة نار، حتى عصفت بالعديد من الأنظمة وباتت تهدد استقرار أنظمة أخرى، لتكشف معها أيضاً عن أزمة بنيوية في صفوف قوى المعارضة بمختلف مشاربها الفكرية والأيدلوجية.
السلطات العربية مافتئت تتحايل على أزماتها بالتجديد للحاكم الفرد، ويا لكثرة ما تردد منذ نصف قرن أن لا بديل عن هذا الحاكم رغم استبداده، لأنه ضمانة للاستقرار والأمن ووحدة المجتمع والبلد، وتتجدد هذه الاسطوانة المشروخة برحيل حاكم وجلوس حاكم آخر مكانه، وهو (التجديد) الوحيد الذي تزينه الأنظمة بشعارات (الاستمرارية والتطوير)، استمرارية نظام الحاكم الفرد بمبايعة مستبد جديد يواصل مسيرة سلفه، دون أي تقدم حقيقي في بنية النظام، أو تحقيق مكتسبات سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية تضفي عليه (شرعية ثورية) كما يدعي.
الصورة لم تختلف كثيراً في زمن ما يصطلح على تسميته بـ"ثورات الربيع العربي". فالتجديد للرئيس مازال ينظر إليه في غير بلد عربي كخشبة خلاص من مواجهة استحقاق التغيير، رغم مرض الرئيس مثلاً، وعدم مقدرته على أداء مهامه، يعاد طرح اسمه كمرشح وحيد للحزب الحاكم، لانعدام وجود خيارات أخرى تمكن من الدفع بأسماء من داخل منظومة الحكم وتتمتع بحيثية وطنية جامعة.
وهذا السبب يهون أمام كون الرئيس في أمثلة أخرى سبباً في الانقسام الوطني، في دلالة على أن الأنظمة وصلت إلى حالة من التكلس في مفاصلها إلى درجة أنها لم تعد قادرة على إعادة إنتاج نفسها ولو بتغيير شكلي في رأس هرمها، حتى بأكثر الأشكال المتخلفة لإعادة إنتاج نفسها، كما كان يجري في السابق تحت مسميات (انقلابات عسكرية ثورية). وبالطبع هذا ليس تزكية لمثل هكذا (تغيير) على مبدأ المثل الشعبي العربي (تبديل طرابيش)، إنما مثال على إفلاس تلك الأنظمة وافتقارها إلى برامج ورؤى تمكنها من الاستمرارية في مواجهة مارد الحراك الشعبي، الذي خرج من قمقم عهود الاستلاب للقمع والاستبداد.
زيادة في انكشاف غالبية أنظمة الحكم العربية القائمة، ظاهر الأمر في الأنظمة السياسية العربية غير الملكية أن من يحكمها أحزاب (عريقة) أو (ائتلافات حزبية)، يفترض نظرياً أن يكون باستطاعتها كقوى منظمة، ولها أذرع قوية في الدولة العميقة، الإسهام في وضع مخارج وطنية من الأزمات، لولا أنها تحولت إلى ركيزة من ركائز الحكم المستبد القائم على الإقصاء، ليس فقط إقصاء الآخر بل تحجيم دور القيادات الحزبية التابعة له، أو المنضوية تحت جناحيه، وإقصائها في حدود لعب وظيفي هامشي، ترسمه لها بالتفصيل الممل المؤسسات الأمنية والعسكرية من خلف الستار.
الأحزاب التقليدية العربية، يسارية ووطنية وقومية وإسلامية، استنسخت الفردية على طريقتها، وللمفارقة كانت الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية الأكثر تجديداً في بنيتها القيادية الأولى، ففي الأحزاب القومية والوطنية والقومية مازالت ما تسمى بـ"القيادات التاريخية" مهيمنة على رأس الهرم الحزبي، وقلما يستبدل الأمين العام للحزب أو أحد أعضاء قيادته الأولى بغير الوفاة أو الانشقاق. وتحولت المؤتمرات العامة للأحزاب العربية المعارضة إلى منابر للانقسامات في العقود العربية، حيث لم يسلم حزب منها، وخرجت أحزاب من رحم حزب أم تنازعه على الاسم والتمثيل والتعبير عن الخط الفكري والأيدلوجي، لكن الأحزاب الجديدة جاءت في معظم الأحيان نسخة طبق الأصل عن الحزب الأم، ولم يتغير فيها سوى اسم (القيادة التاريخية الجديدة).
للطرفة؛ شاركت قبل سنوات بجنازة أحد القادة الشيوعيين التاريخيين العرب، وراعني ونحن نصعد الجبل نحو المقبرة منظر العشرات من أعضاء حزب الأمين العام الراحل تخطو الستين من العمر، وهم يرفعون صور الفقيد ويلهثون ويهتفون بصوت متعب "عاش الحزب… عاش بقيادة…"، والطرفة في أن من يهتفون له بمواصلة القيادة هو القائد الراحل الذي يشيعونه إلى مثواه الأخير. ويومها وقف أعضاء قيادة حزب انشق عن الحزب الأم يراقبون بانزعاج هذه الهتافات، لكن أثبتت الأيام بعدها أن الحزب الوليد لم يكن على موعد مع تغيير جذري. أذكر هذه الواقعة مع احترامي لتراث الراحل السياسي والفكري والنضالي، ولتراث من اختلفوا معه وخرجوا من الحزب، بغض النظر عن أي وجهة نظر خاصة في تقييم سيرة الحزب ومنطلقاته وبرامج عمله.
إن الوجه الآخر لصعوبة مسألة التغيير والدمقرطة في الأنظمة السياسية العربية هو افتقار أحزاب المعارضة التقليدية إلى بنية تنظيمية ديمقراطية وعصرية، ورؤى فكرية وأيدلوجية وسياسية، تكون قادرة من خلالها أن تكون بديلاً ديمقراطياً لأنظمة الحكم المستبدة، فالعديد من قوى المعارضة الحزبية التقليدية التي كانت تحظى بحق العمل الحزبي في ظل أنظمة الحكم، ورقابة أمنية صارمة، تحوَّل أكثرها إلى حليف تابع للنظام في بعض الدول، وسقطت قياداتها مع سقوط رأس النظام، وفي حالات أخرى التحقت بعض القوى المعارضة بـ"الحراك الشعبي"في بلدانها، لكنها انقلبت على العملية الديمقراطية في أول فرصة سنحت لها، وتحالفت مع أدوات الدولة العميقة للنظام القديم، لأنها لا تستطيع أن تكون صاحبة دور إلا بحماية حاضنة تعوضها عن ضعف حضورها وتأثيرها الجماهيري.
وبدورها؛ الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية، والتي تمتلك حضوراً وتأثيراً جماهيرياً حقيقياً وملموساً، رغم أنها كانت الأقرب إلى تجديد بنيتها القيادية دورياً، ظلت بعيدة عن التجديد الفكري والبرنامجي، وشاب عملها داء إقصاء الآخر، وليس الآخر العلماني فقط، بل أيضاً الآخر الإسلامي الذي لا يتفق معها في الرؤية السياسية والبرنامجية أو المرجعية الأيدلوجية.
وبصورة عامة فشلت قوى المعارضة، مرة تلو الأخرى، في إعطاء ردود وإجابات على استحقاقات سياسية وبرنامجية فرضها الحراك الشعبي لـ"ثورات الربيع"، على الصعيد الحزبي أو الوطني العام، وهو الوجه الآخر لفشل أنظمة الحكم السياسية العربية، مما يصعب من عملية التغيير والدمقرطة، حيث أنظمة الحكم عاجزة عن التغيير من داخلها، وقوى المعارضة عاجزة بحكم بنيتها عن تقديم بديل وطني جامع من خارج السلطة.. لكن عملية التغيير التي بدأت بـ"الحراك الشعبي" لن تتوقف، وهي في سياق الحراك تجد نفسها مضطرة للبحث عن أدواتها اللازمة، وليس بالضرورة أن تكون من داخل قوى الحكم أو قوى المعارضة ببنيتها الراهنة، فالثورات قادرة على خلق أدوات حزبية وتنظيمية جديدة، وما تحتاجه المسألة بعض الوقت، يطول أو يقصر تبعاً لخصوصية كل حالة، بينما فرصة القوى التقليدية، سلطة أو معارضة، آخذة بالنفاد.