المؤسّسة تكبح جماح نتنياهو: معادلة «غزة – القدس» تتثبّت
بعدما تبدّت جدّية التهديد الذي قد يطيح بنيامين نتنياهو من منصب رئاسة الحكومة، مع اقتراب موعد منح «الكنيست» الثقة لحكومة برئاسة نفتالي بينت (ضمن اتفاق تناوب على رئاستها مع يائير لابيد)، كثر التداول باحتمال مبادرة نتنياهو إلى افتعال تصعيد في المنطقة، من أجل التسبّب بحالة طوارئ تقطع الطريق على استكمال مسار تشكيل «حكومة التغيير».
وتولّد حرجاً للقيادات اليمينية المعارِضة لنتنياهو بما يدفعها إلى الانضواء ضمن حكومة برئاسته أو على الأقلّ تَدفع نحو انتخابات مبكرة خامسة. لكن، إلى أيّ مدى تسمح آلية صناعة قرار الحرب في كيان العدو، بتفرّد رئيس الوزراء بخيار بهذا الحجم، مع ما له من تداعيات إقليمية وربّما دولية؟ وهل المعادلات التي تبلورت في أعقاب معركة «سيف القدس» تسمح بخيار كهذا؟ وكيف يمكن التفكير أصلاً بهذه الفرضية في ظلّ معادلات القوة المستجدّة على المستوى الإقليمي؟
ينصّ القانون الأساسي على أن الحكومة الإسرائيلية هي المؤسّسة التي تملك صلاحية اتخاذ قرار الحرب، أو القيام بعمليات عسكرية واسعة قد تقود إلى حرب. وفي عام 2018، تمّ منح هذه الصلاحية أيضاً للمجلس الوزاري المصغّر. وإذ يَشتبه البعض بأنه منذ نهاية نيسان 2018، أُعطيت الصلاحية نفسها لرئيس الوزراء ووزير الأمن، إلا أن الصحيح أنه تمّ حينها إقرار مادة قانونية بهذا المضمون، قبل أن تُعدّل بعد نحو ثلاثة أشهر، وتحديداً في 18 تموز، لتُحصر المسألة بالمجلس الوزاري مجتمعاً. مع ذلك، يتمتّع رئيس الحكومة بصلاحيات مهمّة؛ فهو الذي يرأس جلسات الحكومة ويحدّد جدول أعمالها، كما يرأس المجلس الوزاري المصغر ويحدّد وقت اجتماعه وجدول أعماله، إضافة إلى أنه تتبع له مباشرة «هيئة الأمن القومي» التي تقدّم له أوراق تقدير الموقف وما تتضمّنه من تحليلات وبدائل وتوصيات في قضايا الأمن القومي والسياسة الخارجية. على أن ثمّة مجموعة عوامل وجهات مؤثّرة تَحضُر هي الأخرى على طاولة القرار، وقد يكون لها دور حاسم، وفي مقدّمة تلك الجهات الجيش.
على رغم أن الجيش تابع للمستوى السياسي بحسب النص القانوني، إلّا أنه يؤثر بنسبة كبيرة في التوجّهات والقرارات. فالمؤسّسة العسكرية بقيادة رئيس الأركان هي المؤسّسة التي أوكلت إليها مهمّة قراءة الواقع الاستراتيجي العسكري من خلال الاستخبارات العسكرية «أمان»، وهي التي تفسّره وتحدّد ما ينطوي عليه من تهديدات وفرص، وتقدّم في ضوء ذلك البدائل والتوصيات حول ما ينبغي القيام به في مواجهة هذا الواقع. ويؤدي رئيس الأركان، أيضاً، دوراً مهمّاً في بلورة الخيارات العملياتية في الاجتماعات والمشاورات التي يجريها مع رئيس الحكومة ووزير الأمن. باختصار، المستوى السياسي ينظر إلى البيئة الإقليمية وما تنطوي عليه من تهديدات ومخاطر وفرص بعيون الجيش. وكلّما ارتفع منسوب المخاطر الناتجة من أيّ خيار، يزداد تأثير الجيش على توجّهات المستوى السياسي. لذا، ليس صدفة أنه طوال تاريخها، لم يسبق أن شنّت إسرائيل حرباً كان الجيش يعارضها، بل إن الأخير قد يدفع باتجاه خيارات عسكرية، لكن المستوى السياسي يكبحها لأن دائرة اعتباراته أوسع من الأبعاد العسكرية. أيضاً، تؤكد التجارب السابقة كافة أن الجيش والاستخبارات كان لهما دور فاعل ومؤثر جدّاً في بلورة خيارات عملياتية أو الامتناع عن أخرى. والجدير ذكره، في هذا الإطار، أن بإمكان رئيس الأركان رفْض أمر من وزير الأمن أو رئيس الحكومة أو كليهما، للقيام بعملية عسكرية كبيرة أو عملية نوعية، أو شنّ حرب، إذا لم يُتّخذ القرار في «الكابينت» السياسي الأمني. وقد سبق لرئيس الأركان السابق، غابي أشكنازي (وزير الخارجية الحالي)، أن رفض، بدعم من وزير الأمن آنذاك إيهود باراك، تعليمات نتنياهو برفع درجة استنفار الجيش إلى الحدود القصوى، طالباً منه أن يستحصل على قرار من الحكومة لخطورة ما قد يترتّب على الأمر من تداعيات.
ما تقدّم لا يعني أنه ليس ثمّة دور رئيس لرئيس الحكومة في اتّخاذ قرار الحرب، لكنه يبقى تحت هذا السقف، فضلاً عن أن هناك مجموعة متغيّرات تساهم في تعزيز دوره أو تحجيمه، وهي تتعلّق بخبرته في قضايا الأمن القومي، وتاريخه، وحضوره السياسي والشعبي، وأيضاً بقوته السياسية داخل حزبه وداخل الحكومة. ويتعزّز حجم الدور الذي يمكن أن يلعبه المستوى السياسي كلّما كانت الأثمان محدودة، والتداعيات غير مكلفة لإسرائيل، حيث يصبح أقدر على تجاوز العراقيل التي قد تواجهه. كذلك، يتّسع هامش رئيس الحكومة، عندما تتساوق توصيات المؤسّسة العسكرية مع توجّهاته ومصالحه السياسية. في هذه الحالة، قد يتحكّم، إلى حدّ ما، بالتوقيت بما يخدم مصالحه السياسية. كما يمكنه توظيف أيّ مواجهة عسكرية بما يخدم مصالحه. وهو ما ينطبق على القيادات الإسرائيلية كافة، وفي كلّ العمليات والحروب. وإلى جانب ما ذُكر، يأتي دور الولايات المتحدة الأميركية الجوهري في المحطّات الكبرى والمفاصل الرئيسيّة. ولربّما تكفي الإشارة، هنا، إلى أنه في معركة «سيف القدس»، بعدما قدّمت الجهات الأميركية المختصّة في البيت الأبيض تقدير وضع للرئيس جو بايدن، شدّدت فيه على أنه بات بالإمكان الآن المطالبة بوقف إطلاق النار، مستندة إلى معطيات الجيش الأميركي الذي نقل ما أورده الجيش الإسرائيلي من أن العملية العسكرية استنفدت أهدافها، عندها فقط قرّر بايدن الدفع بشكل جدّي نحو التهدئة.
في ما يتعلّق بمعادلات القوة القائمة، من الواضح أن غزة ما بعد معركة «سيف القدس» باتت أكثر حضوراً وتأثيراً وإرعاباً في وعي قادة العدو العسكريين، بعدما لمسوا ما يمكن أن تفعله المقاومة المحاصَرة، مع أكثر من مليونين فلسطيني، في بقعة تبلغ مساحتها 365 كيلومتراً مربعاً، عندما شلّت الكيان الإسرائيلي من شماله إلى جنوبه، وتأكدوا من أنه في أيّ مبادرة عدوانية سيعود مشهد الصواريخ ليغطّي سماء فلسطين والعمق الإسرائيلي في تل أبيب وغوش دان. وما توصية الشرطة الإسرائيلية بإلغاء «مسيرة الأعلام» إلّا تظهير لهذا الرعب الذي بات يسكن نفوس القادة الإسرائيليين، من دون أن يعني ذلك الاستهانة بالقدرات العسكرية التدميرية للجيش الإسرائيلي، فضلاً عن كون القرار مؤشراً إلى الدور الكابح الذي يمكن أن تقوم به المؤسّسة العسكرية في مواجهة أيّ جنوح لنتنياهو. في أيلول 2019، حاول نتنياهو أن يدفع نحو توجيه ضربة عسكرية لحركة «الجهاد الإسلامي» عشية الانتخابات، بعد مشاهد هروبه من عسقلان خوفاً من الصواريخ، إلا أن الجيش، بالتعاون مع المستشار القضائي للحكومة، حال دون تحقّق طلب رئيس الحكومة، لمعرفتهم بأن تنفيذه سيؤدّي إلى ردود صاروخية والتدحرج نحو مواجهة عسكرية لحسابات سياسية ومصلحية. فكيف الآن بعد المعادلة التي فرضتها معركة «سيف القدس» في شأن الدور الحمائي لفصائل غزة إزاء مدينة القدس وقضاياها. على رغم ما تَقدّم، يبقى ثمّة فرق بين الارتداع المذكور، وتدحرج قد تفرضه مستجدّات ميدانية مفترضة. في هذه الحالة، بإمكان نتنياهو أن يعمل على توظيفها لمصالح سياسية.
أمّا بخصوص التفسيرات التي توالت في أعقاب تلويح نتنياهو بالتفرّد في قراره بشنّ عدوان عسكري ضدّ إيران، حتى لو كان ذلك على حساب علاقاته مع الولايات المتحدة، فقد تمّ تحميله أكثر مما يحتمل، نتيجة الظرف السياسي الداخلي الخاص. إذ إن فرضية أن يتفرّد نتنياهو بقرار بهذا الحجم غير واردة على الإطلاق؛ إذ إن رئيس الحكومة المنتهية ولايته يدرك حجم المخاطر الكامنة في قرار كهذا، ولذا من المشكوك أن يُقدم عليه حتى لو تُرك له الخيار، فضلاً عن أن مسألة كهذه تحتاج إلى قرار المجلس الوزاري المصغّر مجتمعاً، وأن للجيش دوراً حاسماً ومفصلياً فيها، ومن المؤكد أنه سيعمل على كبحها، في موقف سبق أن اتّخذه إزاء احتمالات أثمان أقلّ بكثير، تجنّباً للتدحرج إلى المواجهة. وإلى ما تَقدّم، يضاف الدور الذي يمكن أن تقوم به الولايات المتحدة في مواجهة خيار يؤدي إلى إعادة خلط الأوراق الإقليمية، بما يتعارض مع أولوياتها الدولية. والمفهوم نفسه ينسحب على خيارات إسرائيل إزاء «حزب الله» في لبنان، وأيّ خيار عسكري إقليمي يمكن أن تترتّب عليه تداعيات من النوع المذكور. من جهة أخرى، يلاحَظ لدى التدقيق في الموقف الذي أدلى به نتنياهو، أنه غير ذي صلة بالمرحلة الحالية، لأن إيران تشكّل تهديداً وجودياً على مستقبل إسرائيل وليس على حاضرها، فيما تُمثّل راهناً تهديداً استراتيجياً للأمن القومي الإسرائيلي. والتوصيف عينه ينسحب على خيارات إسرائيل العدوانية إزاء القدرات الدقيقة التي زوّدت إيران بها حلفاءها، والتي تصنّفها إسرائيل تهديداً استراتيجياً كبيراً في المرحلة الحالية.
وتباينت ردود الفعل الإسرائيلية على التسجيل الصوتي، في ظلّ ما بدا أنها توجيهات لتقليص تأثير الرسالة على الرأي العام الإسرائيلي، وأيضاً على الجهة التي تفاوض على صفقة التبادل مع حركة «حماس»، عبر وسطاء. إذ إن التسجيل، من وجهة النظر الإسرائيلية المُعلَن عنها عبر تسريبات، يشير إلى أن «حماس»، تستهدف من خلال هذه الأساليب، تحسين أوراقها التفاوضية، عبر الضغط على الحكومة الإسرائيلية، وتحصيل ثمن مرتفع منها. وقالت مصادر سياسية إسرائيلية، في حديث إلى صحيفة «معاريف»، إن «حماس» تستخدم «التلاعب الرخيص» عبر تسجيل أصوات لـ»رهائن وهميين»، في محاولة من تلك المصادر لتفريغ التسجيلات من مضمونها أو تقليص أثرها ومنع تحقُّق أهدافها، فيما أعربت مصادر أخرى وُصفت بالمسؤولة، لصحيفة «إسرائيل اليوم»، عن اعتقادها بأن التسجيلات تدلّ على «ضائقة حركة حماس». وإذا دلّت هذه القراءات على شيء، فإنما على السعي الواضح جداً لقلب التموضعات بين الحركة وإسرائيل، وإظهار تل أبيب غير متأثرة بتداعيات التسجيلات السلبية عليها، خصوصاً مع اعتبار المصادر «التسحيل إشارة إيجابية من حماس، تدلّ على أن الحركة تدرك أنه بدون قضية الأسرى والمفقودين، لن تتقدّم في التفاوض السياسي مع إسرائيل، في مرحلة ما بعد التهدئة وشروط استمرارها».