المتحف الوطني في بيروت يستعيد تألقه بحفظ التراث
في وقت يحافظ فيه المتحف الوطني في بيروت على عراقة تاريخه الزاخر بمقتنياته التي يعود بعضها إلى آلاف السنين، يحاول القائمون عليه أن يكون التراث في متناول الجميع ويصبح مألوفاً للجميع في لبنان.
تقول مديرة المتحف آن ماري عفيش لرويترز إن العمل في المتحف لا يقتصر على عرض المقتنيات الغائرة في التاريخ بأسلوب جذاب فحسب “بل واجبنا أن نشرح القصص خلف المقتنيات وأن نعرض التحف بأسلوب قصصي ليشعر الزائر براحة كبرى لدى تعامله مع التاريخ الشاهق والضخم”.
ولهذا السبب طور فريق العمل في المتحف أخيراً تطبيقاً على الهواتف الذكية يستطيع الزائر أن يقرأ من خلاله معلومات تسلّط الضوء على تاريخ المتحف والمجموعة الكبيرة من المقتنيات التي تتوزع على طوابقه الثلاثة بأسلوب شيق وسهل.
تضيف عفيش: “وخلال الزيارات نوزع لكل زائر أيباد مجاناً يستطيع من خلاله أن يتعرف إلى كل المقتنيات التي يشاهدها أمامه عبر القراءة أو من خلال تسجيلات سمعية”.
وليتمكن المتحف من الوصول إلى الشريحة الشبابية أصدر وزير الثقافة اللبناني غطاس الخوري قبل ثلاثة أسابيع قراراً بدخول طلاب المدارس والجامعات مجاناً إلى المتحف.
وبمناسبة اليوم العالمي للمتاحف الذي صادف يوم الجمعة 18 مايو أيار أستقبل المتحف جميع زواره مجاناً طيلة النهار.
يضم المتحف الوطني في بيروت مقتنيات أثرية تعود إلى عصر ما قبل التاريخ وعصر البرونز وعصر الحديد والعصور الإغريقية والرومانية والبيزنطية والعصر الإسلامي والمملوكي والعثماني.
تعود بدايات المتحف إلى عام 1914 حيث عمد الضابط الفرنسي المتمركز في لبنان آنذاك ريمون ويل إلى تجميع القطع الأثرية على أنواعها ووضعها في قاعة من قاعات دار الراهبات الألمانيات وسط العاصمة بيروت.
وفي العشرينات من القرن العشرين تألفت لجنة تأسيسية برئاسة الشيخ بشارة الخوري رئيس مجلس الوزراء اللبناني ووزير التربية والفنون الجميلة آنذاك جمعت التبرعات بهدف بناء متحف رسمي. واختارت اللجنة المشروع الهندسي المقدم من المهندسين أنطوان نحاس وبيار لوبرنس رينجي.
بدأت الأعمال التأسيسية عام 1930 واستغرقت سبع سنوات وكان الافتتاح شبه الرسمي للمتحف في 27 مايو أيار 1942 على يد رئيس الجمهورية آنذاك ألفريد نقاش.
تعلق عفيش قائلة: “أقول الافتتاح شبه الرسمي لأنه في الواقع لم تقم حفلة افتتاحية في تلك السنة ومع ذلك ما زال هذا التاريخ هو المعتمد لافتتاح الصرح وهو معلق على أحد جدران المتحف”.
وعندما اندلعت الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975 تعرض المتحف للقصف الشديد نظراً لكونه يقع على الخط الفاصل بين المنطقتين المتصارعتين الغربية والشرقية.
وارتأى المدير العام الأول للآثار في لبنان الأمير موريس شهاب أن يحمي المقتنيات التاريخية وعمد إلى تشييد الجدران المصنوعة من الخرسانة حولها.
وتم تغطية قطع الفسيفساء في الأرضية بطبقة من الأسمنت وأخفيت القطع الكبيرة المتعذر نقلها بأكياس رملية تم استبدالها لاحقاً بقوالب خشبية تعلوها طبقة من الأسمنت المسلح. وفي أغسطس آب 2013 تم افتتاح قاعة باسم الأمير شهاب الذي بذل جهوداً مضنية للحفاظ على الآثار مع الإشارة إلى أن المتحف الوطني في بيروت لا يطلق عادة الأسماء على صالاته المديدة.
تقول عفيش “كان لا بد من أن نجد وسيلة لإلقاء التحية على هذا الرجل العظيم الذي حافظ على الآثار في المتحف من عام 1975 حتى عام 1982”.
وإضافة إلى القصف المدمر تعرض المتحف خلال الحرب الأهلية اللبنانية للاحتلال من قبل الميليشيات المسلحة والمشاركة في الحرب.
تؤكد عفيش: “لم يكن هدف هؤلاء الجيوش تدمير المتحف ومقتنياته. بل اختاروه لموقعه الاستراتيجي من جهة ولقدرته على حمايتهم كمبنى ضخم من جهة أخرى”.
وتروي أن قناصاً كان يوجه سلاحه صوب المارة الأبرياء من خلال فجوة صغيرة في أحد جدران المتحف. وما زالت هذه الفجوة التاريخية موجودة حتى الآن. وقد وضع القائمون على المتحف إلى جانبها لوحة. ويستطيع الزائر أن يقف أمام الفجوة وأن يسترجع من خلالها التاريخ الدامي الذي كان المتحف جزءاً منه.
وتضيف عفيش: “ما بين 1995 و2000 تركزت أعمال التأهيل على مبنى المتحف من حيث الإنارة والتكييف والصوت ونظام الحماية وتركيب المصاعد وتركيز الواجهات وتجفيف طبقة المياه الجوفية، وذلك بجهود وزارة الثقافة والمديرية العامة للآثار والمؤسسة الوطنية للآثار”.
وعام 1997، دشن رئيس الجمهورية اللبنانية آنذاك إلياس الهراوي المتحف الوطني الذي استقبل الزوار في الطابق الأرضي وقسم من الطابق السفلي فحسب بهدف إعادة الصلة بين المجتمع اللبناني وماضيه.
وفي عام 1999، أعيد افتتاح المتحف الوطني في بيروت نهائياً ورسمياً برعاية رئيس الجمهورية اللبنانية آنذاك إميل لحود. وعرضت فيه 1300 قطعة أثرية من فترات مختلفة بدءاً من عصور ما قبل التاريخ وصولاً إلى الحقبة العثمانية.
وفي عام 2016 تم افتتاح صالات العرض الدائمة في الطابق السفلي المخصصة للفن الجنائزي من عصور ما قبل التاريخ إلى الحقبة العثمانية. ومولت الحكومة الإيطالية هذا المشروع بالتعاون مع وكالة التنمية والتعاون الإيطالية في بيروت.
وتم اكتشاف هذه المقتنيات في مدافن وأماكن جنائزية في مواقع التنقيب الأثرية القديمة والحديثة في مختلف مناطق لبنان في أوقات زمنية مختلفة تمتد منذ خمسينيات القرن الماضي وصولاً إلى عامي 2012 و2014 بالإضافة إلى قطع كانت في مستودعات مديرية الآثار وتم ترميمها.
وتقول عفيش: “كما عرضنا للمرة الأولى مومياوات تحنطت طبيعياً بفعل البرد في الفترة المملوكية”.
وختمت حديثها قائلة: “منذ افتتاح الطبقة السفلية في المتحف عام 2016 أمسى الناس أكثر رغبة في زيارتنا وهم يصطحبون معهم السياح. ونشهد اندفاعاً حقيقياً من المغتربين الذين تأقلموا بفضل حياتهم في الغرب مع مبدأ المتاحف والمعارض”.
ويعمل المتحف حالياً على إنشاء مبنى صغير داخل الفسحة المخصصة له ستقام فيه معارض ومختلف الأنشطة المخصصة للأطفال فضلاً عن المحاضرات واللقاءات الثقافية.
المصدر : رويترز