تعدّ قضية اللاجئين الفلسطينيين آخر ما تبقّى من القضية الفلسطينية على المستوى العملي. هذه القضية التي تقضّ مضاجع كلّ مروّجي أفكار السلام العربي الإسرائيلي، لأنه بوجود المخيمات، ووجود وكالة دولية خاصة لرعاية اللاجئين فيها، تشكّل الدليل الأخير على أن قضية فلسطين ليست قضية أرض يجري اقتسامها، لكنها قضية شعب طُرد من بلاده، وحُرم من أبسط حقوقه.
منذ اتفاقيات أوسلو، تنازلت منظمة التحرير الفلسطينية عن معظم مفاصل القضية الفلسطينية، جرى ذلك على مراحل، وصلت إلى حضيضها في المرحلة الحالية، عندما يتصدّى أكثر من مسؤول فلسطيني، بمناسبة ومن دون مناسبة، ليعلن أن سلطته أفشلت عمليات فدائية، واعتقلت مقاومين، في تساوق مذلّ مع إعلانات حكومة نتنياهو العنصرية أن “إسرائيل” لن تقبل بدولة فلسطينية، وأن دور السلطة هو حماية أمن “إسرائيل”، وأنها تنجح في القيام بدورها.
في الشتات الفلسطيني تنافس مخيما اليرموك في ضواحي دمشق، وعين الحلوة في ضواحي صيدا، على لقب عاصمة الشتات الفلسطيني. يضمّ كلّ مخيم منهما أكثر من 100 ألف فلسطيني، معظمهم جاءوا من مدن وقرى شمال فلسطين بعد حرب 1948، إضافة إلى عدد محدود من لاجئي 1967، وبعض الفلسطينيين الذين غادروا الأردن بعد أحداث أيلول/سبتمبر 1967. تميّز عين الحلوة باستقباله العدد الأكبر من اللاجئين الفلسطينيين الذين هربوا من المخيمات الفلسطينية، كنتيجة للحرب ضد سوريا الدائرة منذ عام 2011.
لم يكن التنافس بين المخيمين على لقب “عاصمة الشتات” متعلّقاً بعدد السكان، ولكن بالدور النضالي لأبناء المخيم في العمل الفدائي الفلسطيني. وهذا يعني انخراط أبناء المخيم في المنظمات الفلسطينية، وعدد الشهداء، والخدمات التي تقدّم لأبناء المخيم من الهيئات الفلسطينية التي يعمل فيها أبناؤه. كان التنافس يشمل أيضاً التفاخر بنضال الآباء والأجداد في سبيل القضية، والأصول من المدن والقرى في فلسطين.
بعد أوسلو تحوّل مخيم اليرموك إلى مجرّد حي سكني وتجاري في ضواحي دمشق ذي أغلبية من اللاجئين الفلسطينيين. أما مخيم عين الحلوة فأصبح بالتدريج “غيتو” فلسطيني في محيط صيدا، خاصة بعد ظهور جماعات سلفية مسلحة فيه، مثل “عصبة الأنصار” التي أسسها هشام الشريدي، وتولّى قيادتها بعد مقتله أحمد عبد الكريم السعدي (أبو محجن).
أصبحت شؤون المخيمات من اختصاص “الأونروا” بحسب تصريحات أحد المسؤولين في سلطة رام الله، واحتفظ الفلسطينيون بسلاحهم داخل المخيمات اللبنانية، فأصبح المخيم قضية إنسانية دولية، وقضية أمنية لبنانية. لم يقتصر الأمر على هذين المخيمين بل نستطيع القول إنه تجاوزهما إلى معظم مخيمات الشتات الفلسطيني حيث غاب الفعل النضالي على الأرض وتحوّل إلى شعارات ومسيرات في المناسبات.
ظهرت مخيمات الضفة وقطاع غزة لتحلّ محل مخيمات الشتات، وأصبحت أسماء مثل مخيمات النصيرات وجباليا وجنين وبلاطة والدهيشة وغيرها، تحتل صدر نشرات الأخبار نتيجة الفعل المقاوم اليومي لسكانها، وقد توّج الصمود الأسطوري لمخيم جنين خلال عملية الدرع الواقي الإسرائيلية (2002) صورة المخيمات الفلسطينية المقاومة.
بعد الانقسام الفلسطيني (2007)، تراجع دور مخيمات الداخل، وبدت الأمور وكأنّ السلام المنشود قد حقّق أهدافه. وتفاقم الوضع مع الأزمة الاقتصادية التي ضربت المنطقة على هامش الأزمة المالية العالمية، ليأتي العام 2010 حاملاً “الربيع العربي” الذي أشاع الفوضى في معظم الدول العربية، باستثناء الأراضي الفلسطينية المحتلة.
نالت مخيمات سوريا الكثير من الدمار على يد الإرهاب، وكان مخيم اليرموك واحداً من أكثر المخيمات التي نالها ذلك الدمار والتهجير، وانخفض عدد سكان المخيم من نحو 160 ألف مواطن إلى 20 ألفاً فقط، وهو ما أصاب مخيمات أخرى مثل مخيم درعا، ومخيم عين التل في حلب حيث بلغت نسبة الدمار الكلي والجزئي، بحسب الأونروا، أكثر من 70% من مباني هذه المخيمات. تهجّر سكان المخيمات داخلياً، وباتجاه الأردن ولبنان، وجزء لا يستهان به حصل على التوطين الأوروبي خاصة في هولندا والدنمارك والسويد.
كان مصير مخيم عين الحلوة معاكساً، إذ ازداد عدد سكانه نتيجة هجرة الفلسطينيين السوريين، ومع هؤلاء جاء عدد لا يستهان به من الإرهابيين الفلسطينيين والسوريين واللبنانيين، الذين شاركوا في الحرب على سوريا. كانت البداية مع بلال بدر الذي لمع اسمه ما بين عامي 2011 – 2015، ولجأ الإرهابيان شادي مولوي القادم من طرابلس، وأحمد الأسير القادم من صيدا إلى المخيم الذي أصبح مرتعاً للتنظيمات الإرهابية التي لم تتوانَ عن إطلاق النار تجاه الجيش اللبناني، مما دفع السلطات اللبنانية إلى بناء سور حول المخيم.
مع انشغال قوى المقاومة في التصدّي للمشروع الإمبريالي – الصهيوني في المنطقة، انشغلت قوى ما يسمّى الاعتدال العربي بالبحث عن فرصة لإعلان علاقاتها السرية مع “إسرائيل” من خلال اتفاقيات التطبيع التي انتشرت كالورم الخبيث في الجسد العربي. وقفت المخيمات حجر عثرة في وجه مخطّط التطبيع، أصبح لا بدّ من إنهاء ظاهرة المخيمات الفلسطينية. كان المثال السوري طريقة مهمة في التعامل مع المخيمات وإفراغها من جزء كبير من سكانها، من خلال الحرب والتدمير.
لجأت “إسرائيل” إلى التضييق على المخيمات الفلسطينية في الضفة الغربية، وعادت مخيمات جنين وبلاطة وقلنديا إلى الواجهة من جديد، اقتحامات واعتقالات، وعمليات عسكرية واسعة تدفع أعداداً من المواطنين إلى هجرة المخيم بشكل مؤقت أو دائم.
في مخيم عين الحلوة عادت المواجهات مع التنظيمات الإرهابية، والدمار والقتل الذي رافقها لتدفع سكان المخيم للبحث عن حلول خارج المخيم، الهجرة داخلياً أو خارجياً، ولاحقاً سيكون كل هؤلاء قابلين بالتوطين في لبنان أو غيره ليخرجوا من جحيم الحصار من الخارج، والقتل من الداخل.
سياسياً يتراجع الدعم المقدّم إلى وكالة “الأونروا”، وتتقلّص خدماتها يوماً بعد يوم. هذه الخدمات التي تغطي جزءاً مهماً من احتياجات اللاجئين الفلسطينيين خاصة في مجالي الصحة والتعليم، سيؤدي استمرارها بالتراجع إلى جعل حياة هؤلاء اللاجئين شبه مستحيلة.
إنهاء ظاهرة المخيمات داخل فلسطين وخارجها، هدف إسرائيلي، تدعمه دول عربية عديدة بما فيها السلطة الفلسطينية نفسها. هذا الصداع يجب أن ينتهي، يجب البحث عن التمويل والآليات اللازمة لتوطين أبناء المخيمات داخل فلسطين وخارجها، سواء في دول الشتات أو خارجها. هناك من هو جاهز للقتل، وآخر جاهز للدفع، وثالث جاهز للتنفيذ.
بالمقابل يصبح المخيم الفلسطيني متراساً لا بدّ من دعمه ومن تسهيل حياة المواطنين داخله، ولا بدّ من دعم منظمة “الأونروا” لتبقي على مستوى خدماتها الحالي على الأقل. إذا سقطت المخيمات نكون قد خسرنا القلعة الأخيرة، وتكون الطريق أمام “إسرائيل” قد أصبحت معبّدة حتى أبعد نقطة في وطننا العربيّ.
الميادين نت